الفصل الثالث والعشرون بعد المائة: معركة أحد- الجزء السادس - الهزيمة
أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة الجُزْءُ التاسع: معركة "أحد"
الفصل الثالث والعشرون بعد المائة
*********************************
معركة أحد- الجزء السادس
الهزيمة
*********************************
.jpg)
*********************************
تحدثنا في الفصل السابق عن الجزء الأول من معركة أحد، وهو الجزء الذي شهد انتصار ساحق للمسملين لا يقل روعة عن انتصار بدر
ولكن وقعت فصيلة الرماة في الغلطة الكبيرة التى قلبت الوضع تمامًا، حيث تركوا مواقعهم على جبل الرماة، ونزلوا الى أرض المعركة ليشاركوا بقية الجيش في جمع الغنائم
.jpg)
جبل الرماة
وانتهزت كتيبة الفرسان بقيادة "خالد بن الوليد" الفرصة السانحة، ودارت خلف جبل الرماة، وانقضت علي المسلمين من خلفهم، وأخذ فرسان المشركين ينادون بقية الجيش بشعارهم: "يا للعزى يا لهبل" فشعر المشركون المنهزمون بالتطور الجديد، وقاموا بهجوم مضاد ضد المسملين، وهكذا أحيط بالمسلمين من الأمام والخلف، ووقعوا بين شقي رحي، وجائت امرأة من المشركين فرفعت لواء قريش من التراب، وتجمع جيش قريش مرة أخري حول لوائهم
وقلنا أن القتال تركز بعد ذلك في ساحة المعركة في نقطتين:
النقطة الأول حيث جيش المسلمين المحاصر أمام جبل أحد، وقد سادت الفوضى والإرتباك والإضطراب في الجيش، حتى تاهوا وسط المشركين
والمكان الثاني الذي تركز فيه القتال كان حول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
.jpg)
التفاف كتيبة "خالد"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
محاولات قريش قتل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كان عمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 57 عام وكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مكانه في مؤخرة الجيش، وحوله مجموعة من الصحابة لحراسته، عددها تسعة، وكان هؤلاء التسعة سبعة من الأنصار واثنين من المهاجرين، فقاتلوا جميعًا يدافعون عن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى سقط هؤلاء الأنصار واحدًا تلو الآخر وهو يقاتل بين يدي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينما بقي فقط "طلحة بن عبيد الله" و"سعد بن أبي وقاص" وكانت من أحرج اللحظات في حياة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وفي أثناء القتال سقط الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أحد الحفر في أرض المعركة، وأصيبت ركبته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ثم اشتد عليه الهجوم، وأخذ المشركون يلقون عليه الحجارة، فكُسِّرَت رباعيته، والرباعية هي السن بجوار الناب، وسميت رباعية لأن عددها أربعة، اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل، فكسرت رباعية الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اليمني السفلى، كسرها "عتبة بن أبي وقاص" أخو "سعد بن أبي وقاص" كما أصيبت شفته السفلى وسالت منها الدماء
وأصيب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في جبهته وسالت الدماء على وجهه
وجاءه فارس عنيد اسمه "عبد الله بن قَمِئَة" فضربه على عاتقه ضربة قوية، ظل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يشتكي منها شهرًا كاملًا أو أكثر، ثم ضربه ضربة أخري على وجنته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى دخلت حلقتان من المغفر في وجنته، وسالت منها الدماء
وجعل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمسح الدماء من على وجهه ويقول "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدماء، وهو يدعوهم إلى ربهم" فنزل في ذلك قول الله تعالى "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ" وبعد ذلك قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون" فنزل قول الله تعالى "وانك لعلى خلق عظيم"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
استبسال الصحابة في الدفاع عن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
استبسل "طلحة بن عبيد الله" و"سعد بن أبي وقاص" في الدفاع عن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان "سعد بن أبي وقاص" من أمهر العرب في رمي السهام، فنثر له الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كنانته وقال "ارم فداك أبي وأمي" ورمي "سعد" في هذا اليوم ألف سهم
وأخذ طلحة يقاتل عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وكان عمر "طلحة" حوالى 28 عام، وهو –رضى الله عنه- أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأخذ يقاتل عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى جرح تسعة وثلاثون جرحًا، وكاد أن يصيب أحد السهام الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتلقاه "طلحة" بيده فلم تصب النبي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشلت يد "طلحة" وظل هكذا يقاتل حتى سقط مغشيًا عليه، وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال : ذلك اليوم كله لطلحة
.jpg)
أخذ "طلحة بن عبيد الله" يقاتل عن النبي حتى جرح تسعة وثلاثون جرحًا
وأخذ الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينادي في المسلمين "إليّ عباد الله" وبدأ المسلمون يدركون الخطر المحدق بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخذ المسلمون يقبلون على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان أول من وصل الى النبي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو "أبو بكر" الصديق، ثم جاء "أبو عبيدة بن الجراح" يقول أبو بكر "وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني" ثم قال أبو بكر "فإذا طلحة بين يديه صريعاً"
ثم جاء "على بن أبي طالب" وجاء "عمر بن الخطاب" و"أبو دُجَانة" و"مصعب بن عمير" و"أبو طلحة الأنصاري" و"حاطب بن أبي بلتعة" وأم عمارة "نُسَيْبة بنت كعب" وغير هؤلاء الكثير من المسلمين الذين ثبتوا على قلة عددهم أمام ثلاثة آلاف مقاتل وقدموا تضحيات رائعة لا يعرف التاريخ لها مثيلًا:
كان "أبو طلحة الأنصاري" مثلًا يقف أمام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرمي بالقوس، وكان راميًا شديد النزع، حتى كسر في هذا اليوم قوسين أو ثلاثة، وكان ربما يمر أحد المسلمين ومعه جعبة من السهام، فيقول له الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انثرها لأبي طلحة، فأخذ "أبو طلحة" يقاتل وهو يقول " نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء" وكان الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرفع رأسه ليري ما يصيب أبي طلحة، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم ، نَحْرِي دون نحرك
واحتضن "أبو دجانة" الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من ظهره حتى يقيه من السهام، وأخذت السهام تسقط في ظهر أبو دجانة و"أبو دجانة" منحن وواقف مكانه لا يتحرك، يقول الرواي حتى أصبح "أبو دجانة" مثل القنفذ
.jpg)
أخذت السهام تسقط في ظهر أبو دجانة وهو لا يتحرك
وقاتل "على بن ابي طالب" واصيب عشرات الإصابات، حتى أن الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان بعد المعركة يبحث عنه بين القتلي
وجاء "عبد الرحمن بن عوف" وقاتل حتى أصيب بعشرين جرحًا، وكانت أحد هذه الإصابات في فمه حتى تكسرت أسنانه، وكان بعضها في رجله فكان يعرج بعد أحد
.jpg)
قاتل "عبد الرحمن بن عوف" حتى أصيب بعشرين جرحًا
وحاول "سعد بن أبو وقاص" أن يقتل أخيه "عتبة بن أبي وقاص" الذي كسر رباعية الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكنه لم يظفر به، فتبعه "حاطب بن أبي بلتعة" حتى ضربه بالسيف ضربة أطاحت رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه
وجاء "سهل بن حنيف" أحد أبطال المسلمين، فبايع الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الموت
وحملت أم عمارة "نُسَيْبة بنت كعب" السيف، وكانت قد خرجت لتسقي الجيش، وتساعد الجرحي، فلما وقعت الهزيمة حملت السيف، أخذت تقاتل حتى أصابها اثنى عشر جرحًا، يقول الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني"
.png)
يقول الرسول"ما التفت يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني"
ثم وجدت "ابن قمئة" يقبل وهو مصرًا على قتل الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يقول "دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا" فتصدت أم عمارة لإبن قمئة بسيفها وضربته بسيفها عدة ضربات، ولكن كان يرتدي درعان فنجي من ضرباتها، ثم ضربها هو ضربة أصابت عاتقها تركت جرحًا أجوف، وسقطت على الأرض، وجاء أبنائها ليحملوها، وكان لها ابنان يقاتلان في المعركة، فقالت دونكم رسول الله
.jpg)
دونكم رسول الله
وقاتل "قتادة بن النعمان" قتالًا شديدًا حتى أصيب في احدي عينيه ووقعت على وجنته، فردها الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيده فكانت أحسن عينيه وأحَدَّهُما
وجاء "مالك بن سنان" فأخذ يمص الدم من جروح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى ينقيها، فقال له الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "مُجَّه" فقال : والله لا أمجه، ثم ذهب يقاتل حتى مات شهيدًا
وقاتل "مصعب بن عمير" بضراوة بالغة، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمنى حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسري حتى قطعوا يده اليسري، ثم قتلوه، وكان الذي قتله هو "ابن قمئة" وكان "مصعب بن عمير" يشبه الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاعتقد "ابن قمئة" أنه قتل الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فانصرف ابن قمئة الى المشركين وهو يصيح: إن محمدًا قد قتل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
.jpg)
.jpg)
.jpg)
.jpg)
.jpg)
.jpg)
.png)
.jpg)
ولم تمر دقائق حتى شاع خبر مقتل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المشركين والمسلمين، وكانت المسلمون لا يزالون محاصرون، فلما وصل اليهم خبر مقتل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انهارت روحهم المعنوية، وبدأ البعض في الفرار، ففرت مجموعة منهم الى المدينة، وصعد بعضهم الى الجبل، بينما توقف عن القتال البعض الآخر ووقف مستكينًا، فقال لهم أنس بن النضر: ما تنتظرون ؟ فقالوا: قتل رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، قال : ما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اني لأجد ريح الجنة دون أحد ، ثم مضي فقاتل القوم حتى قتل، فلم يعرف بعد ذلك ـ بعد نهاية المعركةـ من كثرة الإصابات في وجهه وجسده، حتى عرفته أخته باصابعه، وعدوا جروحه فاذا هي بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم .
بدأ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك في الانسحاب المنظم الى أحد شعاب جبل أحد، وقد قلنا أن الشعب هو الطريق بين الجبلين، وكان من أسباب اختيار الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهذا الموضع في أحد، هو أن يكون الجبل هناك مكان آمن في الجبل يمكن أن ينسحب اليه المسلمون، اذا وقعت الهزيمة بالمسلمين، ولا يلجئوا الى الفرار من أمام العدو، فيتعرضوا للقتل أو الى الأسر
.jpg)
بمثل هذه البسالة استطاع جيش المسلمين أن يشق طريقه الى شعب الجبل، وهزمت عبقرية خالد أمام عبقرية الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
.jpg)
في أثناء انسحاب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى الجبل عرضت له صخرة فلم يستطع أن يصعد عليه، من كثرة جراحه والمجهود الذي بذله، فجلس تحته "طلحة بن عبيد الله" ونهض به حتى صعد على تلك الصخرة
استقر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمسملون في الشعب، وقامت قريش بآخر هجوم بقيادة "أبو سفيان" و"خالد بن الوليد" اذا حاولوا أن يصعدوا الجبل ويكونوا فوق المسلمين، فقال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "اللهم انه لا ينبغي لهم أن يعلونا" فأخذ سعد يرميهم بالسهام، وانطلق اليهم "عمر بن الخطاب" ومعه مجموعة من المسلمين حتى أهبطوهم من الجبل