الحلقة (628) من "تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم" تفسير وتدبر الآيات من (9) الى (12) من سُورَة إبْرَاهِيم (أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ......

الحلقة رقم (628)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)

        

تفسير وتدبر الآيات من (13) الى (17) من سُورَة إبْرَاهِيم (ص 257)

        

(وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴿١٣﴾ وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴿١٤﴾ وَٱسۡتَفۡتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد ﴿١٥﴾ مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ ﴿١٦﴾ يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ ﴿١٧﴾ 

        

(وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴿١٣﴾
قلنا في مقدمة السورة أن المحور الرئيسي في سورة إبراهيم هو الصراع بين الحق والباطل، وكيف أن النتيجة الحتمية لهذا الصراع هو انتصار الحق على الباطل.
وهذه الآيات الكريمة تذكر جانب من هذا الصراع، والمحاورات التي درات بين الرسل وبين أقوامهم.
يقول تعالى (وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) 
(لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ) يعنى يتم طردكم أو نفيكم من القبيلة. 
والطرد أو النفي من القبيلة في المجتمع القبلي هي من أقسي العقوبات التي من الممكن أن يتعرض لها الفرد في المجتمع القبلي.
لأن الشخص الذي يطرد من قبيلته في المجتمع القبلي، يفقد حماية القبيلة، ويفقد دعمها، ويفقد احترامه وسمعته في القبائل الأخرى.
ولذلك كان تهديد قوم شعيب 
(لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا) 
وقوم لوط (أخرجوا آل لوط من قريتكم)
أيضًا عندما اشتد الصراع بين الرسول ﷺ وبين قريش قبل الهجرة كان طرد الرسول ﷺ من مكة هو أحد الخيارات المطروحة عند مشركي قريش، يقول تعالى (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) يعنى يحبسوك (أو يقتلوك أو يخرجوك) يعنى يخرجوك من مكة، لإن -كما ذكرنا- النفي من القبيلة هو من أقسي العقوبات التي يمكن أن يتعرض لها الفرد في المجتمع القبلي.

        

(وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ) 
الخطاب هنا للرسل وللمؤمنين بالرسل بصفة عامة.
اما أن تخرجوا من القبيلة.
(أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) تعودون الى ديننا، وهو عبادة الأصنام.
وهذه الخيارات مؤكدة بلام القسم: (لَنُخۡرِجَنَّكُم) (أَوۡ لَتَعُودُنَّ) يعنى ليس هناك خيار ثالث.

        

وقالوا (مِّنۡ أَرۡضِنَآ) وليس "مِّنۡ قبيلتنا" مثلًا، كأن مش مسموح لهم أن يكونوا في مكان حتى قريب من القبيلة، (مِّنۡ أَرۡضِنَآ) يعنى تبعدوا تمامًا.

        

كلمة (لَتَعُودُنَّ) توقف عندها العلماء.
لأن العودة يعنى أن الواحد كان في حاجة وبعدين سابها وبعدين رجعلها مرة أخري.
عدت الى البيت يعنى ايه؟ يعنى كنت في البيت ورحت مشوار وبعدين رجعت البيت مرة تانية.
والكافر هنا يخاطبون الرسل، فهل معنى هذا أن الرسل كانوا على الكفر حتى يقولوا لهم (لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)؟ 
نقول إنه لم يعبد أي رسول غير الله سواء قبل الوحي او بعد الوحي.
ولم يسجد أي رسول لصنم لا قبل الوحي ولا بعد الوحي.
لأن الأنبياء معصومون من الكبائر بفطرتهم حتى قبل الوحي لأنهم صفوة الخلق.
والرد على ذلك أن الخطاب في هذه الآية لم يكن للرسل وحدهم، ولكن كان للرسل والمؤمنين معهم.
وكان المؤمنين مع الرسل على الكفر قبل الإيمان.

        

(فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ)
يعنى أوحي الله الى الرسل لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ.
واللام لام القسم
كأن مقابل قسمهم يقسم الله تعالى.


        

(وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴿١٤﴾
يعنى وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ أَرۡضَ الظالمين وديارهم، (مِنۢ بَعۡدِهِمۡ) مِن بَعۡدِ هلاكهم. 
(ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)
يعنى الكلام ده لمين؟ 
(لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي) 
(خَافَ مَقَامِي) يعنى خَافَ الله تعالى، وخَافَ صفات جلاله، وعقوبته 
وقيل (خَافَ مَقَامِي) يعنى خَافَ مقامه بين يدي الله -تعالى- للحساب يوم القيامة. 
أو (خَافَ مَقَامِي) يعنى خَافَ قيامي عليه، ومراقبتى له.
وكل هذه المعاني متقاربة، وتعنى الخوف من الله تعالى 
يعنى خاف الله تعالى خوفًا يجعله يأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه.
(وَخَافَ وَعِيدِ)
يعنى: خَافَ وَعِيدِ الله بالعذاب لمن عصاه.

        

اذن قوله تعالى (ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)
يعنى هذا الوعد بالنصر على الأعداء والتمكين في الأرض هو لمن خاف الله تعالى، فأتمر بأوامره وانتهي عن نواهيه.

        

وهذه الآيات من الآيات التي وعد الله تعالى فيها أنبيائه والمؤمنين بالنصر على أعدائهم والتمكين في الأرض.
ونجد أن هذا الوعد مؤكد بلام القسم ونون التوكيد.
قال تعالى (لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ) وقال تعالى (وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ)
ودائمًا الآيات التي فيها الوعد من الله للمؤمنين بالنصر والتمكين، نجدها تأتي مؤكدة بأكثر من أسلوب توكيد.

        

مثل قوله تعالى في سورة غافر (أنا للنصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)
مؤكدة بالحرف (أن) ونون التوكيد.

        

في سورة الصافات (وأن جندنا لهم الغالبون)
حرف (ان) ولام التأكيد، واضافة الجندية لله.

        

في سورة النور (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) 
لام القسم ونون التوكيد الثقيلة ووعد الله.

        

في سورة الروم (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)
اسلوب الماضي الذي يفيد التحقيق، وكلمة (حقًا) تدل على الالتزام الإلهي.

        

(كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز)
فيها سبع أساليب توكيد
والأمثلة أكثر من هذا.
اذن في كل وعد في القرآن الكريم للجماعة المؤمنة بالنصر والتمكين، نجد الآية مؤكدة بأكثر من أسلوب تأكيد. 
لماذا؟!
لأن النصر قد يتأخر، وقد يتأخر كثيرًا، قد يتأخر النصر عدة سنوات، بل قد يتأخر النصر عدة أجيال. 
كما في قصة نوح -عليه السلام- تأخر النصر مئات السنين.
ألف سنة الا خمسين عامًا
ما بين دعوة موسي على فرعون وجنوده، وبين اجابة الدعاء أربعين سنة.
ولذلك كانت الجماعة المؤمنة في حاجة الى هذا التأكيد من الله تعالى.


        

(وَٱسۡتَفۡتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد ﴿١٥﴾
(وَٱسۡتَفۡتَحُواْ)
السين والتاء تأني بمعنى الطلب.
مثل "استسقي" طلب السقيا أو الماء، "استخار" طلب الخير، "استطعم" طلب الطعام، "استنصر" طلب النصر.
فمعنى (ٱسۡتَفۡتَحُواْ) بعنى طلبوا الفتح من الله.
الفتح في اللغة له عدة استخدمات: ممكن يأتي بالمعن المادي، كما نقول فتح الباب، أو فتح العلبة.
وممكن أن يأتي بمعنى معنوي، كما تقول فتح الله لك.
هنا (ٱسۡتَفۡتَحُواْ) وهو طلب الفتح من الله
يعنى طلبوا من الله أن يحكم بحكمه العادل وأن يفصل بينهم وبين أعدائهم.
كما قال تعالى في سورة الأعراف: (رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ)
يعنى يا رب احكم بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ من يحكم.

        

من الذين ٱسۡتَفۡتَحُواْ؟ 
من الذين طلبوا حكم الله؟
قيل فيها ثلاثة آراء:
قيل إن الذين ٱسۡتَفۡتَحُواْ هم الرسل والمؤمنين.
يعنى قالوا يا رب نحن أوليائك وهؤلاء أعدائك، وقد آذونا هذا الإيذاء، فافصل واحكم بيننا وبينهم.
كما قال تعالى: (رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ)

        

وقيل أن الذين ٱسۡتَفۡتَحُواْ، هم الأقوام الكافرة، يعنى هم لحماقتهم وغطرسنهم وانطماس بصيرتهم، يعتقدون أنهم على الحق وأن الأنبياء والمؤمنين هم الذين على الباطل، ولذلك يطلبون من الله أن يحكم بالعدل بينهم وبين المؤمنين. 
وكما قال كفار قريش في سورة الأنفال (ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍۢ)
وقبل الخروج لغزوة بدر تعلق أبو جهل بأستار الكعبة وقال (اللَّهُم أقْطَعُنا للرَّحِمِ، وآتانَا بما لا يُعرَفُ، فأَحِنْهُ الغَداةَ)
يعنى اكسره وأهلكه هذا الصباح 
فإذن اما الذي طلب الفتح بمعنى الذي طلب حكم الله اما الرسل واما أعدائهم من الكفار. 
والرأي الثالث وهو الأرجح أن الذي استفتح وطلب حكم الله، هما الفريقان: الرسل والكفار.

        

ماذا حدث بعد أن طلبوا الفتح؟
قال تعالى (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد). 
نتيجة منطقية حتمية 
طالما طلبت الفتح من الله فسيخيب كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد.
(وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد).
(خَابَ) الخيبة هو عدم تحقق المطلوب.
كما نقول هذا انسان خائب.
الجَبَّار هو الذي يقهر الناس ويستخدم قوته أو سلطته في الظلم والاستبداد.
والعنيد هو الذي يعرف الصح ويرفضه لكبر في نفسه.
وأصلها من "العنَد" بفتح النون، يعنى الميل
كانت العرب تقول "عَنَدَ عن الطريق" يعنى شايف أمامه الطريق الصح وخد بعضه ومشي في طريق آخر.

        

(وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد).
 وفى الحديث: "يؤتى بجنهم يوم القيامة، فتنادى الخلائق فتقول: إني وكلت بكل جَبَّارٍ عَنِيد".


        

هناك قصة مؤسفة في التراث الإسلامي على هذه الآية الكريمة: (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد).
كان "الوليد بن يزيد بن عبد الملك" أحد خلفاء الدولة الأموية
وربما كان هو أسوأ خلفاء الدولة الأموية.
وهذا الخليفة تولى الخلافة وعمره 35 عامًا وكان منحلًا فاسقًا ماجنًا مستهترًا، ولم يكن يهتم بالدولة، هذه الإمبراطورية الضخمة التي يحكمها، وانما كان اهتمامه فقط بالشعر واللهو.
ولم تستمر فترة حكمه أكثر من سنتين حتى ثار عليه ابن عمه "يزيد بن الوليد" بسبب سخط الناس والأسرة الأموية عليه.
فخرج "الوليد بن يزيد" لقتال ابن عمه، وقبل الخروج أراد أن يتفائل بالقرآن، يعنى يفتح المصحف، ويأخذ فأله من أول آية يقع عليها بصره، ان كانت آية ثواب يتفائل، وإذا كانت آية عذاب يتشاءم.
وهذا امر ليس له أصل، ولم يفعله أحد الصحابة، وحرمه العلماء، وقالوا أن هذا باب الاستسقام بالأزلام.
فامسك المصحف وفتحه، فوقعت عينه على هذه الآية: (وَٱسۡتَفۡتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد)
فما كان منه الا أن استشاط غضبًا ومزق المصحف وقال:
تتوعد كل جَبَّارٍ عَنِيد
فها أنا ذاك جَبَّارٍ عَنِيد
إذا لقيت يوم الحشر ربك 
فقل يا رب مزقني الوليد.
فهزم بعد ذلك بيومين من ابن عمه "يزيد بن الوليد" الذي خرج عليه، وقتله شر قتله وعلقت رأسه على باب قصره.
وكانت فترة حكمه القصيرة هي أسوأ فترة حكم في الدولة الأموية، بل كانت سببًا في انهيار الدولة الأموية بعد ذلك 

        

(مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ ﴿١٦﴾
(مِّن وَرَآئِهِ)
من أضداد يعنى تأتي بمعنى الأمام وتأتي بمعنى الخلف.
تأتي بمعنى الخلف، كما نقول وراك وراك.
(مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ) يعنى لن تتركه أبدًا.
وتأتي (مِّن وَرَآئِهِ) بمعنى مِّن أمامه.
وأصلها الشيء الذي ووري عنك فلا تراه، تواري من القوم يعنى استخبي منهم.
فاستخدمت بمعنى مِّن أمامه، بمعنى الحاجات اللى لسه حيشوفها ويمر بيها.
كما تقوي أنا وريا بكره أعمل وكذا وكذا، أو النهاره ورايا كذا وكذا وكذا
يبقي لسه حاعمل الحاجات دي
فقوله تعالى (مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ)
اما ان جَهَنَّمُ خلفه ولن تتركه أبدًا.
أو أنها في انتظارة متربصة به، مستنياه.
كما في سورة الكهف: (وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)
اما ان الملك يطاردهم، أو أنه متربص بهم 

        

(وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآء صَدِيد) 
يعنى ومن عذابه يوم القيامة أن يُسۡقَىٰ مِن مَّآء صَدِيد.
ولم يقل (وَيشرب مِن مَّآء صَدِيد) 
 وانما قال (وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآء صَدِيد)
لأن ملائكة العذاب تجعله يشربه رغمًا عنه.
لأن الجزاء من جنس العمل: كما كان يقهر أهل الإيمان في الدنيا.
لدرجة أن يجبرهم على أن يقولوا كلمات الكفر.
سيجبر يوم القيامة على أن يشرب من المَّآء الصَدِيد

        

والصديد الذي نعرفه في الدنيا هو السائل الذي يسيل من الدمل او الخراج.
أما صديد الآخرة –والعياذ بالله- فهو لا يشبه صديد الدنيا الا في الاسم فقط. 
قال العلماء أن الصديد الذي هو شراب أهل النار هو غسالة أهل النار
يعنى ما يسيل من أجساد أهل النار.
فيجمع لهم ويجبرون على شربه.

        

وكلمة "صديد" من الصد، لأنه يصد الناظرين عن رؤيته.
فاذا كان الناس لا تتحمل رؤيته فكيف بشربه.
والتعبير (يسۡقَىٰ مِن مَّآء صَدِيد) كلمة (مَّآء) يعنى هذا هو مَّآء أهل النار، وهذا هو شرابهم الوحيد.

        

(يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ ﴿١٧﴾
هذه الآية الكريمة قال بعض العلماء أنها أشد آية عذاب في القرآن
وهذه تكملة للآية السابقة، قول الله تعالى: (وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآء صَدِيد) 
كأن القاريء يقرأ قوله تعالى: (وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآء صَدِيد) 
فيتعجب كيف يمكن أن يشرب أي انسان هذا الصديد.
فالجواب في هذه الآية:
(يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ)
(يَتَجَرَّعُهُ) صيغة "يتفعل" تأتي للفعل بمشقة.
كمن يقول "يتجلد" يعنى يتكلف الجلد.

        

ومعنى (يَتَجَرَّعُهُ) يتناول المشروب جَرْعة جَرْعة على استمررا، يعنى كما نقول: بق بق.
كأنه من شدة مرارته لا يقدر على استمرار الشراب ولذلك يأخذه بق بق.
و(يُسِيغُهُ) السوغ هو أن ينحدر الشراب في الحلق بسهولة، يعنى يبتلعه بسهولة.
فالتعبير (وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) يعنى يكاد لا يمر في حلقه ولا يبتلعه. 

        

فكأن المشهد أن ملائكة العذاب الغلاظ الشداد تمسك بهذا الكافر الجبار العنيد، وتجبره على شرب الماء الصديد، فيأخذ جَرْعة رغمًا عنه ثم يحاول أن يدفع الشراب عن فمه؟
ثم تعطيه ملائكة العذاب جَرْعة ثانية رغمًا عنه.
ثم يأخذ جَرْعة ثالثة ورابعة وخامسة
وعندما يتجرعه تمر الجرعة في حلقه بصعوبة شديدة جدًا، حتى تكاد يقف في حلقه.
ثم ينزل ماء الصديد في أحشائه فيمزقها، حتى يخرج من دبره.
عن النبي ﷺ في هذه الآية، يقول ﷺ "إذا شَربه قَطَّع أمعاءَه حتى يخرج من دُبُره"


        

(وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَان وَمَا هُوَ بِمَيِّت)
يعنى كل جزء من أجزاء جسده يناله لون من العذاب مختلف 
يقول إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ-: مِنْ كُلّ موضع شعرة في جسده عذاب.
وكل نوع من العذاب كفيل بأن يقتله..  ولكنه لا يموت.
يعنى مثلا يأتي ملك بحجر ضخم ويهشم به رأسه 
المفروض أن هذا يقتله
وهو يعتقد أنه سيموت ويستريح من هذا العذاب، ولكنه لا يموت.
وفي نفس الوقت ملك يصب على جسده نحاس مذاب
المفروض أنه يقتله، ولكنه لا يقتله، هو فقط يشعر بألم العذاب.
قال المفسرون حبس الله نفس الكافر في جسده ليصل إليه الألم، ومع ذلك لا يفارق روحه جسده فيستريح.

        

يقول تعالى (وَمَا هُوَ بِمَيِّت)
الباء يعنى مش حتدوق طعم الموت

        

وبعدين : انته لسه شفت حاجة 
(ومن وراءه عذاب غليظ)
لسه منتظرك عذاب لا يوصف 
ألوان أخري من العذاب لا تخطر على بالك.


        

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لَرجلٌ يُوضعَ في أخْمَص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه"
فاذا كان هذا هو أهون عذاب لأهل النار، فما بالك بالعذاب الذي يصفه تعالى بأنه عذاب غليظ 

        

يقول مقاتل بن سليمان في قوله تعالى (ومن ورائه عذاب غليظ)
بعد عشرين ألف سنة يفتح عليهم باب يقال له الهيهات فتأكل ناره نار جهنم، وأهلها، كما تأكل نار الدنيا القطن المندوف

        

كما في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فكذلك العذاب في جهنم مالا يخطر على بال أحد