Untitled Document

عدد المشاهدات : 1589

الحلقة (50) من "تدبر القُرْآن العَظِيم" تدبر الآية (57) من سورة البقرة (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

 تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الخمسون
تدبر الآية (57) من سورة البقرة
 ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ 

  وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ 

 

بعد أن نجي الله تعالى بنى اسرائيل وغرق فرعون بمعجزة شق البحر، ذهب موسى ليتقلي التوراة ولكنه عاد ووجد بنى اسرائيل وقد عبدوا العجل، فكان حكم الله تعالى أن يقتل "بنى اسرائيل" بعضهم بعضا حتى قبل الله تعالى توبتهم
وبعد ذلك اختار موسى سبعين رجلا لكي يصحبوه الى جبل الطور حيث يناجي موسى ربه، ولكنهم فاجئوا موسي بقولهم (يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) فأخذتهم الصاعقة، وهي نار نزلت من السماء، عقابًا لهم على هذا الطلب، ثم بعثهم الله تعالى بعد هذا من بعد موتهم
بعد ذلك أمرهم الله تعالى بأن يسيروا في اتجاه بيت المقدس، حتى اذا كانوا قريبًا منه جاء الأمر من الله تعالى لهم بدخول بيت المقدس، يقول تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِئَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) ولكن "بنى اسرائيل" جبنوا ورفضوا الإمتثال لأمر الله تعالى، و(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ .  قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) ولكنهم أصروا و(قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) فغضب موسى ودعا عليهم وقال (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فحكم الله تعالى عليهم بالتيه أربعين سنة، يقول تعالى ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)
وظل "بنى اسرائيل" في التيه، وهي منطقة بين الشام ومصر، لمدة أربعين سنة كاملة وكانوا في هذا التيه يدورون في نفس المكان، وسمي بالتيه من التوهان، فهم لا يهتدون الى طريق، وكانوا ربما يسيرون صباحًا، فاذا كان آخر اليوم يجدون أنفسهم في نفس المكان
حتى أن موسى ندم على أنه دعا عليهم، ولذلك أوحي اليه الله تعالى فقال  (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فترك موسى الندم على ذلك
لمذا أربعين سنة ؟ حتى يكون هذا الجيل الذي تربي على العبودية والذل والإستكانة والجبن في مصر قد مات، ونشأ جيل جديد تربي على الحرية يستطيع أن يعتمد عليه في المعركة 
 ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

دخل "بنى اسرائيل" في التيه لمدة أربعين سنة، ولم يتخل الله تعالى عنهم وهم في هذا التيه، فجاءوا الى موسى وقالوا يا موسى أين لنا بالماء هنا ؟  فأمر الله تعالى موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنى عشر عينا بعدد اسباط بنى اسرائيل
وقيل أنهم كانوا يحملون معهم حجر من جبل الطور، فاذا نزلوا منزلًا ضربه موسى بعصاه فينفجر منه اثنا عشر عينا
ثم جاءوا موسى وقالوا: هذا الماء فأين الطعام ؟ فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوي
والمن مادة لزجة بيضاء حلوة المذاق تتجمع على الحجر وعلى ورق الشجر على شكل قطرات ما بين طلوع الفجر حتى طلوع الشمس، فكانوا يجمعون هذه المادة من على الحجر وورق الشجر، ويأكلونها أو يذيبونها في الماء ويشربونها كالعصير، وكان لكل واحد منهم قدر "صاع" أي حوالى 2 كيلوا جرام في كل يوم، فكانوا اذا استيقظوا من نومهم أكلوا منه
وسمي منًا لأن الله تعالى يمن بها على عباده بلا تعب منهم
وهذه المادة موجودة حتى الآن في العراق، حيث يقومون هناك بفرش ملاءات تحت الأشجار، ثم يقومون بهز الأشجار بعد طلوع الشمس ويجمعون المن، وهناك صناعات قائمة على هذه المادة الغذائية، وهي حلوي لذيذة الطعم
والسلوي طائر يشبه  السُّمَانَي، أو هو طائر  السُّمَانَي نفسه، واشتقاقه من السلو ، كأنَّه مُسَلِّي عن غيره، وهو من ألذ الطيور لحمًا، فكان هذا الطائر يأتي في أسراب، وينزل عليهم من السماء كالمطر، بلا صيد وبلا تعب منهم، بل يقدم اليهم نفسه فيأخذوه
فالمن طعام أو شراب حلو، والسلوي طعام لذيذ
ثم قالوا من لنا بالوقايه من حر الشمس، لأن الصحراء بدون سحاب ولا مطر تكون كالجحيم، فأرسل الله تعالى الغمام يظلهم، والغمام هو السحاب الأبيض، وقيل أنه سحاب كان فيه برودة، فكان يظلهم من شروق الشمس الى غروبها ثم ينقشع حتى يستضيئوا بالقمر ليلًا
وقالوا يا موسى من لنا بالضياء والنور في الليل، فسخر الله لهم عمودًا من نور في الليالي التى ليس فيها قمرًا، يضيء لهم في الليل 
ثم قالوا يا موسى أين لنا باللباس، فجعل الله لهم ثيابهم لاتبلي ولا تتسخ، وكان صغارهم اذا كبروا تكبر معهم ثيابهم
 ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 والعجيب أن بنى اسرائيل كانوا يجمعون من المن والسلوي ما يكفيهم في يومهم هذا، فاذا ادخروا أو جمعوا ليوم آخر فسد في اليوم التالي، باستثناء يوم الجمعة، لأن يوم السبت لا يعملون بل يتفرغون للعابدة، فاذا ادخروا يوم الجمعة ليوم السبت لا يتلف

وكان ذلك درسًا عمليًا لبنى اسرائيل حتى يتعلم "بنى اسرائيل" التوكل على الله بطريقة عملية، فيكون توكلهم مثل توكل الطير تغدوا خماصًا وتعود بطانا 
ولذلك جعلهم يأخذون ما يكفيهم ليوم واحد فقط، فاذا ادخروا منه ليوم آخر فسد، فاذا ادخروا يوم الجمعة ليوم السبت لا يفسد حتى يعلمهم أن هذا الطعام لايفسد لطبيعة الطعام، ولكنه يفسد حتى يتعلموا هذا الدرس العملي في التوكل
ولكن بنى اسرائيل لم يتعلموا الدرس، ولذلك سنجد أنهم بعد ذلك يطلبون من موسى طلبًا عجيبًا، يقولون (يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) 
لأن "المن" أصله غير معروف لديهم، فربما لا ينزل عليهم، والسلوي كذلك فقد لا تأتي أسراب السمان، ولذلك طلبوا شيء –من وجهة نظرهم مضمون- فقالوا (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) حتى لو كان أقل في الطعم
وهذا يدل على أن "بنى اسرائيل" لم يتعلموا الدرس الذي أراد الله تعالى لهم أن يتعلموه، وأن ثقتهم بعطاء الله تعالى غير موصولة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

  (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) اذن يتحدث الله تعالى عن الإنعام السابع على بنى اسرائيل، بعد الإجمال في قوله تعالى في الآية (47) (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)

(الطَيِّبَاتِ) يعبر بها عن الطعام الحلال والذيذ في نفس الوقت
(مَا رَزَقْنَاكُمْ) نسب الله الرزق الى نفسه، مع أن كل الرزق من الله، لأن هذا الرزق جائهم بلا تعب ولا معالجة منهم
وبرغم توافر هذا الطعام الجيد, والمقام المريح, ولكن "بنى اسرائيل" لم يشكروا الله على هذه النعم، ولذلك قال تعالى بعدها (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
والتقدير أنهم لم يشكروا نعم الله تعالى الكثيرة عليهم، بل عصوا الله تعالى فظلموا أنفسهم (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
وقد يكون المقصود بالمعصية هنا، هو إبائهم على موسى -عليه السلام- دخول قرية الجبارين فعاقبهم الله تعالى بالحبس في التيه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 كما قلنا من قبل أنت أيها العبد لا تبلغ أن تظلم الله تعالى، فالله تعالى أعز من أن تظلمه، وأعز من أن تضره،  وهو تعالى لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة الطائعين، فأنت اذا ظلمت لا تظلم الا نفسك

وأشد أنواع الظلم هو ظلم العبد لنفسه، لأن مسئوليتك الأولى هو أن تحافظ على نفسك وأن تسعد نفسك، ولكنك بدلًا من ذلك تشقي نفسك فيكون ظلمك لها هو أشد أنواع الظلم