Untitled Document

عدد المشاهدات : 4550

الحَلَقَة (39) مِن "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" تدبر الآية (44) من سورة البقرة (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

   تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة التاسعة والثلاثون
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تدبر الآية (44) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ 
 ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لا يزال الخطاب من الله تعالى لبنى اسرائيل، فقال تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ) والألف في (أَتَأْمُرُونَ) ألف الاستفهام، وهي للتوبيخ والتعجب من حالهم
 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

 (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ) والبر هو كل طاعة
والمقصود بالبر هنا، والذي كان "بنى اسرائيل" يأمرون الناس به وينسون أنفسهم، هو الإسلام والإيمان بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لأن اليهود قبل بعثة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانوا يأمرون المشركين بأن يتركوا عبادة الأوثان، وأن ينضموا الى موكب الإيمان بمنهج السماء، وأن ينضموا الى الإيمان بالرسل والكتب السماوية
فلما بعث الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كفروا به
 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

كذلك كان علماء بنى اسرائيل يقولون لأقاربهم وحلفائهم وأخواتهم من الرضاعة من أهل المدينة، اتبعوا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فانه حق، بينما يمتنعوا هم عن اتباع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ومن امثلة ذلك أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عاد غلاماً من اليهود كان مريضاً، فحضر أجله والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنده؛ فدعاه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى الإسلام، فنظر الغلام الى أبيه كأنه يستشيره، فقال له أبوه: "أطع أبا القاسم" . فنطق الغلام بالشهادتين، فخرج الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عنده وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار
 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

يقول تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) أي باتباع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أي وتتركون أَنْفُسَكُمْ فلا تأمرونها بذلك (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) تقرؤون التوراة وفيها صفة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أي أَفَلَا تَعْقِلُونَ أنه حق فتتبعونه ؟
 

 

وهذه الآية وان كانت قد نزلت في بنى اسرائيل، فالعبرة ليست بخصوص الموضوع ولكن العبرة بعموم السبب
فقول الله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) خطاب موجه الى بنى اسرائيل، ولكنه خطاب موجه لنا نحن أيضًا، وموجه لكل من يتعرض للدعوة
بل إن الأمة المحمدية هي أكثر المعنيين بهذا الخطاب، لأن الله تعالى أمرها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل وربط خيريتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) 
فجائت هذه الآية لتضع هذا المنهج من مناهج الدعوة، وهو ألا يأمر أحد الناس بمعروف الا وقد طبقه على نفسه، ولا ينهاهم عن امر الا وقد انتهي عنه، وذلك حتى يكون أسوة وقدوة لهم
 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

يقول تعالى في موضع آخر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)
ويقول تعالى على لسان شعيب –عليه السلام- (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) يعنى ما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعلُ خلافه
قال الحسن لمطرف بن عبد الله –وكان من الصالحين-: عظ أصحابك, فقال "مطرف" إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، كما قال شعيب عليه السلام (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)
يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب ".
 يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه -أي أمعاؤه- في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه"
اذن من يأمر بمعروف أو ينهي عن منكر ثم يفعل خلافه، يكون عقابه أشد من العاصي الذي لا يأمر بمعروف أو ينهي عن منكر، لأنه يستهين ويستخف بحرمات الله تعالى 
جاء رجل الى ابن عباس وقال له: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال أبلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل. قال وما هن؟ قال قوله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" أحكمت هذه؟ قال: لا. قال فالثاني قوله تعالى "لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" أحكمت هذه؟ قال لا قال فالثالث قول العبد الصالح شعيب عليه السلام "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح" أحكمت هذه الآية؟ قال لا قال فابدأ بنفسك.
ورد في الأثر "مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه" 
 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

ولذلك عندما تحدثوا عن صفات القائد الناجح، قالوا هو الذي يجذب الناس من الأمام، وليس الذي يدفعهم من الخلف
في غزوة بدر، كانت المسافة من المدينة الى بدر مائة وخمسون كم، وكان عدد المسلمون 313 ، وكان معهم سبعين من الإبل، فكان كل ثلاثة يتعاقبون على ناقة واحدة، ومعنى هذا أن كل واحد من الصحابة سيركب فقط ثلث المسافة، ويسير ثلثي المسافة، ومعنى هذا أن كل واحد سيسير مائة كيلو متر في رمال الصحراء، فكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف مثلًا يتعاقبون على بعير واحد، وكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتعاقب بعيره مع "على بن أبي طالب" و"مرثد بن ابي مرثد" فقال "على" و"مرثد" للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  "نحن نمشي عنك يا رسول الله"  فقال لهما الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 
- ما أنتما بأقوى منِّي على السير، ولا أنا بأغنَى منكما عن الأجر
مع أن عمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان خمسة وخمسون عامًا، وعمر "على" 25 سنة، و"على" معروف بالقوة، و"مرثد" 22 عام، ومعروف أيضًا بقوته 
 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

وفي غزوة الخندق اشترك الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع المسلمون في حفر الخندق، بل كان يقوم بأشق الأعمال فكان يحمل التراب فوق رأسه، والجندي عندما يري القائد يعمل معه، فانه –ولاشك- يخرج كل ما عنده، لأنه يشعر بأهمية هذا العمل
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- وهو أميرًا للمؤمنين، إذا أراد أنْ يأخذ قراراً في أمر من الأمور، كان يجمع قرابته ويقول لهم: أني رأيت أن آمر بكذا وكذا،  فوالذي نفسي بيده مَنْ خالفني منكم إلى شيء منه لأجعلنه نكالاً للمسملين
جاء في سيرة القائد المسلم (طارق بن زياد) أنه لما ذهب لفتح الأندلس وقف بجنوده على شاطيء البحر، وأعداؤه على الشاطيء الآخر، ثم قال للجنود: أيها الناس أنا لن آمركم بأمر أنا عنه بنجوى، وإنني عند ملتقى القوم سابقكم، فمبارز سيِّدَ القوم، فإنْ قتلتُه فقد كُفيتم أمره، وإنْ قتلني فلن يعوزكم أمير بعدي.
 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

وإنْ قتلني فلن يعوزكم أمير بعدي.
.