Untitled Document

عدد المشاهدات : 2658

الحلقة (24) من "تدبر القرآن العظيم" تدبر الآيتين (21) و(22) من سورة البقرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأ

  تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الرابعة والعشرون
❇        
 
تدبر الآيتين (21) و(22) من سورة البقرة

  ❇        

  يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

 

 ❇        

قلنا أن الله تعالى في اول سورة البقرة تحدث عن أصناف الناس، فتحدث أولًا عن المؤمنين في أربعة آيات، ثم تحدث عن الكافرين في آيتين، ثم تحدث عن المنافقين في ثلاثة عشرة آية، ثم توجه بعد ذلك بالنداء الى الجميع، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
وهذا يطلق عليه في علم البلاغة اسلوب الإلتفات، يعنى ينتقل من اسلوب الى آخر، هنا مثلًا انتقل من اسلوب الغيبة الى اسلوب المخاطب، وذلك بهدف دفع الملل والسآمة عن المستمع
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ)
يَا) أداة نداء للبعيد ثم (أَيُّهَا) الهمزة أداة نداء للقريب)
كأن(يَا أَيُّهَا) ينادي الله تعالى القريب والبعيد
واذا قرأت في القرآن هذا النداء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) فاعلم أن الخطاب في أمر العقيدة، فالله تعالى حين يخاطب الناس لا يقول لهم صلوا أو صوموا أو حجوا، ولكن يقول لهم آمنوا بالله، وحدوا العبادة لله وهكذا
 أما اذا كان النداء (يا أيها الذين آمنوا) فالأمر قد تجاوز العقيدة الى الأحكام
ولذلك فجميع الآيات التى فيها النداء بـ  (يا أيها الذين آمنوا) هي آيات مدنية، يعنى آيات نزلت بعد الهجرة، وأغلب الآيات التى فيها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) آيات مكية، قبل الهجرة
❇        
(ثم يقول تعالى (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
قلنا من قبل ونحن نتحدث عن قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أن "العبادة" في اللغة تعنى "الذلة والطاعة" فالعرب تقول "بعير معبد" يعنى "بعير مطيع" فتقول "جمل معبد" أو "حصان معبد" يعنى "مطيع" ونحن نقول "طريق معبد" يعنى مذلل للمارة
يقول ابن كثير أن العبادة: كلمة تجمع بين كمال  المحبة والخوف والخضوع 
فمعنى(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) يعنى يا أيها الناس لا تتجهوا بالخضوع أو الذلة أو الطاعة الا الى الله، ويا أيها الناس وحدوا الله بالعبادة  
وذكر الله تعالى الحيثية في الأمر نفسه فقال (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) لأن الرب هو الذي يتولى شئون الخلق، فكأن الله تعالى يقول اعبدوا من يتولى أموركم وشئونكم 
كما تقول لولد متعب: اسمع كلام من رباك، أو: اسمع كلام من تعبت فيك
فالأمر نفسه فيه حيثية الأمر، وفيه علة الأمر
(ثم ذكر حيثية جديدة فقال (الَّذِي خَلَقَكُمْ
فكأن الله تعالى يقول: اعبدوا الله لأنه الذي يتولى أمركم، وهو الذي خلقكم من عدم
فكيف يخلق الله، ويعبد غير الله ؟! 
فكما أن الله تعالى قد تفرد بالخلق, فوجب أن يتفرد بالعبادة
❇        
والإنسان قد يلفته السبب عن المسبب، فيعتقد أن الذي جاء به أبيه وأمه وجدوده، فيقول تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
ولم تكن العرب تنكر أن الله تعالى هو الخالق، ولكنهم كانوا يشركون بعبادة الله، فيعبدون الأصنام لتقربهم الى الله، وكانوا ينكرون البعث، الى جانب عشرات الأمور العقائدية الخاطئة، فخاطبهم الله تعالى بالصفة الذي يعترفون بها من بين سائر صفاته، وهو ان الله تعالى خالقهم، فقال (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعنى إِنْ كُنْتُمْ مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ خَالِقُكُمْ فَاعْبُدُوهُ، وَلَا تَعْبُدُوا الْأَصْنَامَ
❇        
ثم قال تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قلنا أن "تتقون" من "الوقاية" أن تجعلوا بينكم وبين النار وقاية، وتجعلوا بينكم وبين العذاب وقاية،  فالمعنى أن تعبدوا الله تعالى حتى تتقوا النار وتتقوا العذاب، ليس هذا فحسب ولكن تتقوا كل مضار الحياة
أو تعبدوا الله، لَعَلَّكُمْ تَصِيرُونَ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ صُوَرِ الْبَشَرِيَّةَ، وهي صُورَةُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ، الْمُتَّقِينَ لِلَّهِ .
❇        
وبعد أن تحدث الله تعالى عن حيثية عبادته، بأنه تعالى هو الخالق، وهو الذي أخرج الخلق من العدم الى الوجود، فقال (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
ذكر –تعالى- جوانب أخري من حيثيات عبادته، فقال تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا)
يعنى الله تعالى أعد الأرض اعدادًا مريحًا للبشر ولغيره من المخلوقات التى تخدم البشر، وشبه الله تعالى هذا الإعداد بالفراش الذي يعده الإنسان لنفسه لينام عليه 
وفي موضع آخر في سورة طه يقول تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا)  يعنى مثل المهد الذي تعده الأم للطفل
فالأم قبل أن تضع الطفل في المهد، تعده جيدًا حتى لا تكون هناك بروز يؤذي الطفل، وتنظر فيه خوفًا من أن تكون هناك "نملة" مثلًا يمكن أن تقرصه، لأن الطفل لا يستطيع أن يعالج هذه الأمور بنفسه، فالإنسان مثل هذا الطفل لا يستطيع أن يعالج موضوع تمهيد الأرض بنفسه 
واليابسة بدأت بسلاسل من الجبال شديدة الوعورة، ثم سخر الله تعالى عوامل التعرية المختلفة، وما يطلق عليها علماء الجيلوجيا التجوية والتحات، أي تفتيت الصخور ونقلها من منطقة الى اخري، والتى استمرت أكثر من 6400 مليون سنة حتى تم تمهيد سطح الأرض وبسطه‏ ,‏ وجعله فراشا للإنسان ولغيره من المخلوقات‏
والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لأنهم اعتادوا عليه,‏ ولكن لو تخيلت الأرض وهي عبارة عن سلاسل من الجبال شديدة الوعورة كما كانت منذ ملايين السنين، قبل أن يوجد عليها الإنسان، لشعرت بفضل الله تعالى علينا العظيم في قوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا)
قد يقول قائل أن الأرض ليست تامة الإستواء، بل فيها جبال عالية، وفيها منفضات كثيرة وهي البحار والمحيطات، نقول أن أعلى قمة في الأرض هي قمة إفرست في جبال الهملايا في الصين، تسعة كيلومترات، وأخفض نقطة في الأرض، غور "ماريانا" في قاع المحيط الهادي بالقرب من الفلبين حوالى أحد عشر كيومتر، اذن الفرق بين أعلى وأخفض نقطتين على سطح الكرة الأرضية حوالى العشرين كيلو مترا، وبنسبة ذلك الى نصف قطر الأرض،  يتضح أن الفارق بين أعلى وأخفض نقطتين على سطح الكرة الأرضية لا يتعدي‏ 3 في الألف‏ من طول نصف قطرها‏ 
وهذا يمثل قمة التسوية والتمهيد والفرش لسطح الأرض
❇        
 (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)
النعمة الثانية التى يذكرها الله تعالى في هذه الآية الكريمة، أنه تعالى جعل السَّمَاءَ بِنَاءً، وكلمة البناء تفيد المتانة والتماسك وتفيد التنسيق، وذلك برغم الضخامة المذهلة للكون 
وذكر تعالى بناء السماء بعد أن ذكر تمهيد الأرض، لأنك لو تخيلت أنك أعددت فراشًا مريحًا لتنام عليه، ولكن السقف الذي فوقك ليس متينًا ويمكن أن يسقط عليك في اي لحظة، فأنك لن تستطيع أن تنام وستكون في قلق 
وذلك بعدد من القوي التي أودعها الله تعالى في الكون، مثل قوي الجاذبية، والقوي النووية، والقوي الكهرمغناطيسية وغير ذلك
ولذلك عندما بدأ العلماء باكتشاف الكون أطلقوا عليه كلمة space ، أي (فضاء) وذلك لظنّهم بأن الكون مليء "بالفراغ". ولكنهم اكتشفوا بعد ذلك جدران كونية، وجسور كونية، ومواد غير مرئية، وأن الكون ليس فيه فراغ، فأطلقوا على الكون مصطلح جديد، وهو building  أي بناء وهو نفس الكلمة التى استخدمها القرآن العظيم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا في وصف الكون  
❇        
(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)
بعد أن طمأنك الله تعالى على الأرض التى تعيش عليها أنه كالفراش، وطمأنك على السماء أنها لا تقع عليك، تحدث الله تعالى عن مقومات الحياة على الأرض، وهي الماء والطعامن فذكر الله تعالى النعمة الثالثة وهي أن الله تعالى أنزل من السحاب ماءً
وأصل الماء على الأرض خرج من باطن الأرض على هيئة بخار ماء خرج مع ثورات البراكين، ثم بعد ذلك ارتفع في الغلاف الجوي وبرد وعاد الى الأرض مطرًا، تجمع في المنخفضات وتكون منها البحار والمحيطات
وبدأت بعد ذلك دورة الماء حول الأرض
وهذه الدورة هي أن يتبخر الماء أغلبه من أسطح البحار والمحيطات، ويصعد الى الغلاف الجوي ويبرد ويتكثف، وينزل مطرًا، فيعود كل ما تبخر من ماء الأرض اليها مرة أخري، ولكنه ينزل ماءًا طهورًا بعد أن يكون قد تطهر من الأملاح والملوثات
بعض المطر ينزل في البحار، والبعض ينزل على اليابسة، والمطر الذي ينزل على اليابسة، يشرب منه الإنسان والحيوان والنبات، كما أنه يؤدي أدوارًا هامة كثيرة كتفتيت الصخور، وتكوين التربة، وتركيز المعادن،  ثم يعود بعد ذلك الى البحار والمحيطات، لتتكرر هذه الدورة المعجزة مرة أخري 
وهذه الدور من الماء تعمل لآلاف الملايين من السنين دون كلل أو ملل، ولذلك فان كمية المياه الموجودة في الأرض ثابة لا تتغير، فلا تزيد قطرة ولا تنقص قطرة، وربما كوب الماء الذي تشربه قد شربه قبلك مئات أو الآلاف
❇        
(فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) النعمة الرابعة هي اخراج الثمرات من الأرض 
والثمرات هي كل جزء يستخدمه الإنسان من النبات، سواء كان من جذور النبات أو سيقانه أو أوراقه أو زهاره، أو الثمرات الحقيقية 
وهذه الثمرات اما يستخدمها الإنسان في غذائه أو غذاء الحيوان أو الصناعات أو كدواء
❇        
ثم يقول تعالى (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الند هو المثل
فالمعنى: لا تجعلوا لله أمثال، وأنتم تعلمون أنه هو الخالق، وأنه الذي جعل الأرض فراشًا، وهو الذي جعل السماء بناءًا، وهو الذي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، وهو الذي أخرج  مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ 
فكل هذه بديهيات محسومة لله تعالى، فلا أحد أدعي أو يستطيع أن يدعي أنه خلق الأرض أو السماء أو انزل المطر، أو أخرج الثمار
 

*********************************

لمطالعة بقية الفصول- اضغط هنا

لمشاهدة الحلقات فيديو- اضغط هنا

 *********************************