Untitled Document

عدد المشاهدات : 2661

الفصل الرابع والثلاثون: بدء الدعوة الجهرية

 أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة

الجُزْءُ الثَالِث: مِنْ نُزُول الوَحْي حَتَى الهِجْرَة (مَرْحَلَة الدَعْوَة المَكِيَة)

الفصل الرابع والثلاثون

*********************************

بدء الدعوة الجهرية

*********************************

 

القرآن هو المادة الدراسية في دار الأرقم

قلنا أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يعلم أن سرية الدعوة هي مرحلة مؤقتة، ويعلم أنه سيأتي يومًا لابد فيه من الجهر بالدعوة، وأن هذه المرحلة سيكون لها شدتها وصعوبتها، ولذلك اهتم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن يعد اتباعه لهذه المواجهة المرتقبة، فكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يلتقي بهم كقائد مربي في دار شاب صغير عمره ستة عشر عامًا اسمه "الأرقم بن أبي الأرقم"  

وكانت المادة الدراسية لهذه الكتيبة الأولى هي القرآن العظيم، ليست مجرد سماع القرآن وحفظه، ولكن قبل الحفظ الفهم وبعد الفهم –وقبل الحفظ أيضًا- العمل بما فيه، ولذلك فأن أبا بكر الصديق عندما سمع قول الله تعالى "قُمْ فَأَنْذِرْ" تحرك على الفور في تبليغ الدعوة، وأسلم على يديه خمسة من العشرة المبشرون بالجنة، والذين سيكون لهم اثر عظيم بعد ذلك في نشر الدعوة الاسلامية

ونحن نقول ما قاله الامام مالك "لن يصلح آخر هذه الأمة الا بما صلح به أولها" والذي صلح به أول هذه الأمة هو القرآن العظيم، والسنة الصحيحة، ولذلك اذا أردنا أن نحقق النهضة فعلينا ـ أن نعود الى القرآن العظيم، والى السنة الصحيحة

 

كان القرآن هو المادة الدراسية في دار الأرقم

*********************************

أول مرحلة من مراحل الجهر بالدعوة

وبالرغم من حرص الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الشديد هو وأصحابه على سرية الدعوة، ولكن وصلت مع ذلك بعض أخبار هذه الدعوة الى أسماع قريش، ولذلك كان لابد من البدء في الجهر بالدعوة

وقبل أن يواجه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  قريش كان لابد أن يطمئن أن عشيرته وهي "بنى هاشم" ستحميه من بقية عشائر قريش، وهذه هي طبيعة المجتمعات القبلية

قد يقول قائل، ينبغي أن يتوكل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الله، والله هو الذي سيحمي رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وهذا صحيح ولكن يجب أن تأخذ بجميع الأسباب قبل أن تقول أنك توكلت على الله، واذا لم تأخذ بجميع الأسباب، فهذا تواكل وليس توكل، وهذا غير مقبول في الاسلام

اذن أول مرحلة من مراحل الجهر بالدعوة كانت هي قول الله تعالى "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ" يعنى الجهر بالدعوة لقرابته من "بنى هاشم" حتى يضمن حمايتهم له من بقية قريش ومن العرب

وانظر الى لوط -عليه السلام- عندما راودوه عن ضيفه قال في حسرة: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ يعنى لوط –عليه السلام- يتمنى لو كانت له عائلة قوية تدافع عنه أمام قومه، وكذلك شعيب -عليه السلام- يقول له قومه وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ يعنى لولا عائلتك الكبيرة لقتلناك شر قتلة

 *********************************

الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يبدأ بدعوة قرابته

هكذا نزل قول الله تعالى "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ" فجمع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعمامه وبنى أعمامه، وصنع لهم طعامًا، وكان عددهم حوالى أربعين، وبدء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتكلم، ولكن ما ان بدء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتكلم حتى قاطعه عمه "أبو لهب" وكان اسمه "عبد العزي" ولكن اشتهر بأبي لهب لأن وجهه كان شديد الحمار، وكان حسن الوجه، فسماه أبوه "عبد المطلب" أبو لهب

وبالمناسبة فان "أبو لهب" كانت علاقته بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل موضوع الرسالة علاقة قوية جدًا، لدرجة أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زوج ابنته "رقية" من "عتبة بن أبي لهب" وزوج ابنته "أم كلثوم" من "عتيبة بن أبي لهب" ولكن لم يكونا قد دخلا بهما، أي كما نقول الآن، مكتوب كتابهما

وكان أبو لهب قد تسربت اليه أخبار عن الاسلام قبل هذا المجلس، ولذلك لم ينتظر أن يكمل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديثه، وانما قاطعه وقال:

-        هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلم ودع الصبأة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، فما رأيت أحدًا جاء على بنى أبيه بشر مما جئت به

 

قال "أبو لهب" ما رأيت أحدًا جاء على بنى أبيه بشر مما جئت به

ومعنى كلام "أبو لهب" أن ما جاء به الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه معاداة لكل العرب، لأن الاسلام معناه عبادة الله وحده، ونبذ عبادة الأصنام، وكل القبائل العربية لها أصنام منصوبة حول الكعبة، وعددها 360 صنم، بعدد القبائل العربية، وتأتي جميع القبائل لتحج وتعبد أصنامها المنصوبة حول الكعبة، ولذلك قوافل قريش التجارية المتجهة الى الشام، أو المتجهة الى اليمن هي القوافل الوحيدة في الجزيرة التى لا تتعرض لها أي قبيلة أخري، ولذلك قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ (

فاذا جاء الاسلام ورفض عبادة الأصنام، فهذا يعنى معادات كل القبائل العربية، وأن تتحول القبائل العربية بدلًا من حماية قوافل قريش الى محاربة ومنع قوافل قريش، وهذا معناه توقف قوافل قريش التجارية تمامًا، والتجارة هو العمل الوحيد لقريش، ولذلك قال له أبو لهب "ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة" ثم قال له "ما رأيت أحدًا جاء على بنى أبيه بشر مما جئت به"

سكت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يرد أدبًا مع عمه، ولأن الجدال مع عمه لن يكون له أي فائدة، وهذا موقف يتعرض اليه كل داعية، وكل من يتكلم بكلمة الحق

فكل داعية، وكل من يقول كلمة حق، سيجد من يقاطعه، ويسفه كلامه، ويرفع صوته، ويدخله في جدال عقيم، وفي النهاية تضيع الدعوة، ويضيع الحق، فاذا مررت بمثل هذا الموقف، فتصرف كما تصرف نبيك -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا تدع الجانب الآخر يجرك الى هذه الدائرة، ولا تدع الجانب الآخر ينزلك الى مستواه، بل الشيء الوحيد الذي يجب أن تفعله –حتى لو كان صعبًا- هو ان تصمت ولا ترد عليه، وهذا هو ما فعله الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

*********************************

لم تأت هذه الجلسة بأي نتيجة ظاهرة، ولكن على الأقل مهدت الدعوة لقرابة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

ولم ييأس الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجمع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قرابته الى الطعام مرة أخري، وبدء يتحدث مباشرة، ولم يقاطعه أبو لهب هذه المرة، لأنه وجده مصرًا على ايصال رسالته، وهذا ثاني درس من دروس الدعوة، أن الدعوة في حاجة الى الصبر والى الاصرار، والى عدم اليأس

تحدث الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: الحمد لله، أحمده، وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له

ثم يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعلمون، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً"

والرائد هو الذي ترسله القبيلة في أوقات الجفاف ليتكشف لها مكانًا خصيبًا ينتقلون اليه، وهذا الرائد لابد أن يكون صادقًا وثقة وخبيرًا

كانت الخطبة قصيرة جدًا، ولكن جمع فيها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اساسيات العقيدة: وحدانية الله - عالمية الرسالة – البعث بعد الموت – الحساب – الجنة أو النار

*********************************

انقسام قرابة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه الخطبة القصيرة ثم سكت، وتكلم أبو طالب فكان مما قاله:

-        هؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وانما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم الى ما تحب –يعنى أنا أول من ينصرك- فامض لما أمرت به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب

فقال أبو لهب:

-        هذه والله السوأة، خذوا على يده قبل أن يأخذ غيركم

فقال أبو طالب :

-        والله لنمنعه ما بقينا

 

قال "أبو طالب" فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك

هكذا انقسم قرابة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى فريقين:

فريق مدافع عن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى لو كان رافضًا للإسلام، يتزعمه "أبو طالب" وموقف مهاجم يتزعمه "أبو لهب"

كانت الأكثرية من الفريق المدافع عن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى لو كانوا غير مسلمين، لسببين:

السبب الأول: أن هذه هي الطبيعة القبيلة، التى تؤمن بالمقولة: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، طبعًا ليست "انصر أخاك ظالمًا أو مظلمومًا" بالمفهوم الاسلامي، لأن انصر أخاك ظالمًا أو مظلمومًا بالمفهوم الإسلامي يعنى تمنع الظالم من ظلمه، انما انصر أخاك ظالمًا أو مظلمومًا بالمفهوم الجاهلي تعنى انصر أخاك في ظلمه على المظلوم، وللأسف الكثير الآن يعمل بهذه العبارة ليست كما أمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن يعمل بها بالمفهوم الجاهلي، ونجد هذا كثيرًا في الصعيد وغير ذلك، ولو طبقنا هذه العبارة بالمفهوم الاسلامي وليس المفهوم الجاهلي، كما أمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاختفي الظلم والقهر الذي يقع على كثير من الناس   

السبب الثاني: هو أن الفريق المدافع عن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتزعمه "أبو طالب" وهو سيد بنى هاشم

 

انقسم "بنو هاشم" الى فريقين

*********************************

نجاح نسبي للمرحلة الأولى من مراحل الجهر بالدعوة

هكذا انتهت المرحلة الأولى من مراحل الدعوة الجهرية، وهي مرحلة ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ)) وقد انتهت بنجاح نسبي، وهو أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضمن حماية أغلبية بنى هاشم له في مواجهة قريش والعرب، وقد كان هذا هو الهدف الأساسي من البدء بدعوة أقاربه

ونقول أنه كان نجاح نسبي وليس نجاحًا كاملًا لأن هناك فريق من بنى هاشم رفض حماية الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى رأسهم "أبو لهب" والذي سيكون له دور كبير جدًا في محاربة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

والسبب الثاني الذي يجعلنا نقول أنه لم يكن نجاحًا كاملًا، أن غالبية بنى هاشم برغم استعدادهم للدفاع عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الا أنهم لم يدخلوا في الاسلام

انتهت المرحلة الأولى من مراحل الدعوة الجهرية، مرحلة ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ)) ثم كانت بعدها مباشرة المرحلة الثانية من الدعوة الجهرية، وهي قول الله تعالى ((فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)) وهذا أمر للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتبليغ الرسالة لجميع قريش، وللعالم كله

*********************************

لمطالعة بقية الفصول اضغط هنا

*********************************