Untitled Document

عدد المشاهدات : 5506

الفصل الخامس عشر: في بيت أبي طالب

 أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة

الجزء الثاني: من ولادة الرسول حتى مبعثه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

الفصل الخامس عشر

 في بيت أبي طالب

 

تحدثنا في فصول سابقة عن وفاة "عبد الله" والد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يزال جنينًا في بطن أمه، ثم وفاة أمه، وعمره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ستة سنوات

وقد قلنا أن وفاة "عبد الله" كانت في "يثرب" والتى أصبحت "المدينة المنورة" بعد ذلك، حيث كان "عبد الله" في رحلة تجارية هناك، ووفاة "آمنة" أم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أيضًا وهي في طريق عودتها من يثرب الى مكة، بعد أن أخذت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لتزويره أخواله "بنى النجار" في يثرب، وحتى تزور ويزور الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبر أبيه هناك

وبرغم من أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مات أبوه وأمه في المدينة فانه لم يتشائم من المدينة، بل على العكس أحب المدينة حبًا شديدًا، وأصحبت دار هجرته، وأفضل مكان عنده وعند المسلمين بعد مكة المكرمة، ثم مكان وفاته بعد ذلك، والأحاديث في فضل المدينة كثيرة لا حصر لها

وهذا معنى هام جدًا: وهو أن التشاؤم ليس من الاسلام، بل ان الإسلام نهي نهيًا شديدًا عن التشاؤم، يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  "الطيرة شرك" حديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه و"الطيرة" يعنى التشاؤم، و"شرك" يعنى ذنب كبير وكبيرة من الكبائر

وكلمة "الطيرة" جائت من "الطير" لأن العرب في الجاهلية كان الواحد منهم يذهب الى مجموعة من الطيور ويخيفها، فاذا طارت جهة اليمين تفائل، واذا طارت جهة الشمال تشائم

لذلك فان "الطيرة" من عادات الجاهلية، وللإسف الى الآن لا يزال كثير من الناس يتشائمون بعدد غير محدود من الأشياء، مثل رقم 13، والقطة السوداء، والغراب، والعين الشمال عندما ترف، والمقص المفتوح، والشبشب المقلوب، وهكذا

"عبد المطلب" يهتم بترتيب حياة من هو مسئول عنه

وكنا قد انتهينا في الفصل السابق حين مات "عبد المطلب" وقلنا أن "عبد المطلب" قبل موته أوصى بأن يكفل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمه "أبو طالب"

قال "عبد المطلب" وهو على فراش الموت، وحوله أبنائه: يا أبا طالب، فقال أبو طالب: لبيك يا سيد قريش، فقال له: ليكن محمد ابن أخيك في كفالتك، فقال له أبو طالب: محمد أحب الىَّ من بعض أبنائي يا سيد قريش

ومن جمال شخصية "عبد المطلب" أنه اهتم بترتيب حياة من هو مسئول عنه قبل موته

تجد الكثير من الأباء بعد موتهم تضطرب حياة أسرهم، لأنهم لم يهتموا بتنظيم حياتهم بعد موتهم، وهؤلاء أنانيون لا يهتمون الا بأنفسهم، أو على الأقل هم يريدون أن يبعدوا عن أذهانهم فكرة الموت

لم يترك "عبد المطلب" موضوع كفالة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هكذا دون ترتيب وتنظيم، وانما حدد من سيتولي كفالته

حكمة "عبد المطلب" في اختيار "أبو طالب" لكفالة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

واختيار "عبد المطلب" لأبي طالب يدل على حكمته الشديدة، لأن الأقرب للتفكير هو أن يُحَمِل هذه المسئولية لأكثر أبناءه مالًا، وقد كان من أبناءه من كان غنيًا، مثل العباس، أو يتركها لمن ليس من أبناء، وقد كان بالفعل من ابناءه من ليس له أبناء، ولكن "عبد المطلب" على عكس هذا اختار "أبي طالب" وقد كان فقيرًا وكان عنده أبناء

مما يدل على أن اختيار "أبي طالب" لم يكن عشوائيًا، وانما لحكمة، وهي أنه:

أولًا: الأخ الشقيق الوحيد لعبد الله والد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلذلك سيكون أحنهم عليه

السبب الثاني: أن أبي طالب أكثر أبناءه حكمة وحزم فلذلك هو الأفضل لكفالة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

السبب الثالث: أن زوجة أبي طالب وهي "فاطمة بنت أسد" أكثر زوجات ابناءه حنانًا وعطفًا، والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحتاج أكثر ما يحتاج في هذه الفترة في حياته الى حنان الأم 

الرسول في بيت أبي طالب

انتقل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى بيت عمه أبو طالب، وبيت "أبو طالب" ليس غريبًا على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو البيت الذي ولد فيه، ودار "أبي طالب" كما قلنا من قبل كانت في مدخل شعب أبي طالب، و"الشعب" هو الطريق بين جبلين، لأن مكة –كما ذكرنا- محاطة بالجبال، فشعب أبي طالب هو المكان الذي كان يسكن فيه "بنو هاشم" بمكة، وقد أطلق عليه شعب أبي طالب لأن بيت "أبي طالب" هو أول بيت في الشعب

وقلنا أن هذا المكان معروف الى الآن، وهو المكان المقام عليه الآن مكتبة "مكة المكرمة" فهذا المكان عندما تزوره ليس هو مكان ولادة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقط، ولكنه أيضًا المكان الذي عاش فيه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمدة 17 سنة، من سن 8 سنوات حتى تزوج وعمره 25 عام

 

هذا هو المكان الذي عاش فيه الرسول 17 سنة

 

موقع البيت من المسجد الحرام

أبو طالب

وكان سن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين انتقل الي بيت عمه "ابو طالب" ثمانية سنوات، بينما كان سن "أبي طالب" واحد وثلاثون عام

و"أبو طالب" اسمه "عبد مناف بن عبد المطلب" ولكن اشتهر بكنيته، والكنية هي الاسم الذي نبدأه بأب أو أم أو ابن، مثل أبو محمد، أم عمر، ابن الخطاب، فأبو طالب اشتهر بهذه الكنية، و"طالب" هو أكبر أبناء "عبد المطلب"

وكانت سيادة قريش قد انتقلت بعد وفاة "عبد المطلب" الى أبو طالب، ولكن أبو طالب كان فقيرًا فتنازل عن السقاية –يعنى سقاية الحجيج- الى أخيه "العباس" لأن العباس كان موسرًا، واكتفي فقط بالرفادة، أي اطعام الحجيج

وكان "أبو طالب" متزوجًا من "فاطمة بنت أسد" ولم يتزوج "أبو طالب" الا "فاطمة بنت أسد" وهذا كان يعتبرًا أمرًا غريبًا بالنسبة للعرب

 

أبو طالب في الدراما

فاطمة بنت أسد، الأم الخامسة في حياة النبي

كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينادي عمه "أبو طالب" فيقول "يا عم" ولكنه كان ينادي زوجة عمه بـ "يا أمي" وقد كانت السيدة "فاطمة بنت أسد" هي الأم الخامسة في حياة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأمه الأولى هي السيدة "آمنة" ثم "بركة" التى أرضعته، ثم "حليمة" ثم "هالة بنت وهيب" زوجة جده "عبد المطلب" ثم "فاطمة بنت أسد" والتى كانت أم له منذ سن ثمانية سنوات، حتى تزوج وعمره خمسة وعشرون عامًا

وقد قلنا أن "فاطمة بنت أسد" كانت من أهم أسباب اختيار "عبد المطلب" أن يكون الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بيت عمه "أبو طالب" لأن "عبد المطلب" كان يعلم أن "فاطمة بنت أسد" هي أكثر زوجات أبنائه حنانًا وعطفًا

ونلاحظ أن السيدة "آمنة بنت وهب" أم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد اختارت أن تلد في بيت "فاطمة بنت أسد" مما يدل كم كانت السيدة "آمنة" قريبة من "فاطمة بنت أسد"

وقد قلنا أن "أبو طالب" كان قليل المال لأنه كان مثقلًا بالتزاماته تجاه قريش، وأهمها "الرفادة" يعنى هو المسئول عن اطعام الحجيج

فربما كان الطعام قليلًا ولا يكفي من في البيت، ويستحي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في هذه السن الصغيرة أن يمد يده للطعام، فتأتي السيدة "فاطمة بنت أسد" وتأخذ الطعام من أبنائها وتعطيه للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

وربما يُقَّسم الطعام على أهل البيت فتعطي "فاطمة بنت أسد" نصيها للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

وكانت –رضى الله عنها- من السابقات في دخول الإسلام، فكانت ثاني امرأة دخلت في الاسلام بعد السيدة "خديجة"

وفي السنة الرابعة من الهجرة، في المدينة، يقبل علي بن أبي طالب ذات يوم إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باكيا وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال له رسول الله : مه يا علي، فقال: ماتت أمي فاطمة, فبكى النبي وذهب وجلس عند رأسها يبكي ويقول:

"رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعينني وتعرين وتكسينني، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعمينني" ووقف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند قبرها يبكي حتى على نحيبه

 

قبر السيدة "فاطمة بنت أسد" في البقيع في المدينة

الأبناء

وأنجب أبو طالب من "فاطمة" ستة من الأبناء: أربعة ذكور، واثنين من الإناث:

ولكن حين انتقل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى بيت أبو طالب، لم يكن أبو طالب قد أنجب كل هؤلاء، فلم يكن قد أنجب "على" مثلًا، ولم يكن قد أنجب "جعفر" ولكن كان "طالب" موجود، وكذلك "عقيل" وربما "فاختة"

الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخرج في طلب العمل

كان "أبو طالب" كما قلنا فقيرًا والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان طفلًا عنده ثمانية سنوات، ولكنه كان ناضجًا، وكان شخصية حساسة، فطلب من عمه "أبو طالب" أن يخرج للعمل

وبالفعل خرج الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للعمل في هذه السن المبكرة، فعمل في رعي الأغنام، وعمل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذه السن المبكرة كان له تأثير ايجابي جدًا على شخصية الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعكس الاعتقاد أن عمل الطفل له تأثير سلبي عليه، ولكن الأعمال التى لها تأثير سلبي على الطفل هي الأعمال الخطرة على الطفل، أو الأعمال التى تعيق تعليم الأطفال، وغير ذلك عمل الطفل ليس له أية آثار سلبية على الطفل، بل العكس تكسبه صفات كثيرة جيدة، لعل أهمها الجدية والقدرة على تحمل المسئولية

يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث رواه البخاري "ما بعث الله نبيًا الا رعي الغنم" فقال الصحابة: وأنت ؟ قال "نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" والقراريط هي أجزاء الدراهم والدنانير، يعنى كان الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعمل أجيرًا عن أهل مكة، يرعي لهم أغنامهم مقابل أجرة ضئيلة جدًا

أثر رعي الأغنام على شخصية صاحبه

وقد توقف العلماء كثيرًا أمام هذا الحديث، لأن اذا كان جميع الأنبياء عملوا في رعي الأغنام، فلابد أن طبيعة العمل في رعي الأغنام يطبع شخصية صاحبه بصفات ايجابية معينة، هي ضرورية وأساسية لكل نبي

من هذه الصفات مثًا:

صفة الصبر: لأن الأغنام بطيئة في أكلها، والراعي يظل مع الغنم من طلوع الشمس الى غروبها، فيكتسب لذلك الراعي صفة الصبر

التواضع: لأن طبيعة عمل الراعي هي خدمة الغنم، والإشراف على ولادتها، وحراستها، وينام قريبًا منها، وربما يصبه رذاذ من بولها، أو شيء من روثها، فلا يتضجر من هذا، وبمرور الوقت يرتكز في نفسه خلق التواضع

الشجاعة: من أساسيات عمل الراعي الاصطدام بالوحوش المفترسة لحماية أغنامه منها، فيكسبه ذلك صفة هامة جدًا لكل نبي، وهي صفة الشجاعة

 

العمل في رعي الأغنام يكسب شخصية صاحبه بصفات ايجابية كثيرة

 

هكذا كانت حياة الرسول

وهكذا كانت حياة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذه السن، يعمل في رعي الأغنام، ويكتسب من هذا العمل الكثير من الصفات الهامة جدًا لتكوين شخصيته

وينعم في نفس الوقت برعاية وحب وحنان وعطف عمه "أبو طالب" وزوجة عمه "فاطمة بنت أسد" ولا شك أنه كأي طفل يلهو ويلعب مع أقرانه، حتى بلغ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اثنى عشر عامًا فطلب من عمه "أبو طالب" أن يخرج معه في رحلاته التجارية، وهذا سيكون حديثنا في الفصل القادم ان شاء الله تعالى