Untitled Document

عدد المشاهدات : 2206

الفصل الثالث عشر: الحــــفيد

 أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة

الجزء الثاني: من ولادة الرسول حتى مبعثه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

الفصل الثالث عشر
الحــــــفـيـد

 

عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الشخصية الأسطورية
كان عمر "عبد المطلب" حين انتقل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى كفالته ستة وتسعون عامًا، ولكنه كان محتفظًا بقوته
وكان "عبد المطلب" معروفًا في الجزيرة العربية، أولًا لقصته في حفر زمزم، والذي أصبحت كل العرب تعرفها، وثانيًا لموقفه مع أبرهة، ووقوع حادثة الفيل في عهده
وكان "عبد المطلب" هو سيد قريش، وكانت له مكانة وهيبة ليس عند قريش فقط ولكن عند كل العرب، وقد رأينا كيف حين دخل على أبرهة هابه أبرهة جدًا، وهو القائد المنتصر الذي يقود جيشًا قوامه عشرين ألف مقاتل، وهو عدد لم تشهده الجزيرة العربية من قبل، ومعه أفياله الضخمة، وانتصر بل سحق في طريقه "ذو نفر" وقبيلته، ثم سحق "نفيل" وقبيلته، واستسلمت "الطائف" واستسلمت "مكة" نفسها، برغم كل هذا عندما يدخل عليه سيد قريش، أو "حاكم مكة" أي أنه حاكم الدولة المستسلمة، يهابه أبرهة جدًا حتى  ينزل من على عرشه، ويجلس معه على الأرض
وكان "عبد المطلب" يجلس كل يوم عند الكعبة، ويجلس حوله أبناءه وكان عددهم تسعة، (ملاحظة: أنجب "عبد المطلب" اثنى عشر من الذكور، مات منهم في حياته ثلاثة منهم "عبد الله" والد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيجلس معه أبناءه التسعة، وكانوا معروفون بالجمال وقوة الأجسام، يقول الْكَلْبِيُّ –المؤرخ الشهير-: فَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ بَنُو أَبٍ مِثْلَ بَنِي "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" أَشْرَفَ مِنْهُمْ وَلا أَجْسَمَ، فيجلس حول "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" أبناءه وأحفاده، ويلتف حوله سادة قريش، فيتحدثون في أمور قريش والعرب، ولا يتكلم أحد منهم الا باذنه لشدة هيبته، ولا يجلس أحد على البساط الذي يجلس عليه لهيبته
ولم يكتسب "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" هذه الهيبة بالصوت العالى، لأن الكثير الآن يعتقد أن الهيبة هي الصوت العالى وأن يخاف الناس منه، وهذا غير صحيح، ومفهوم خاطيء تمامًا عن الهيبة، لأن الهيبة هي أن يجتمع الحب والخوف في نفس الوقت، قد يكون هناك صاحب عمل، ويؤذي مرؤسيه، وهم يخافون منه، ويعتقد أنه بذلك له هيبة وهذا غير صحيح، الهيبة لا تعنى أن يخاف منك الناس،  فأن يخاف منك من بيدك سلطة عليه أمر سهل جدًا، والمعادلة الصعبة أن تخلق في قلبه الخوف منك والحب لك في نفس الوقت، مثل "عمر بن الخطاب" كانت له هيبة، المسلمون يخافون منه جدًا، ويحبونه جدًا 
فعبد المطلب، كانت له هيبة حقيقية، لم يكتسبها بالصوت العالى وسوء الأدب، بل على العكس اكتسبها بصفاته الطيبة وحسن خلقه، اكتسبها بحلمه، واكتسبها بكرمه، حتى أنه كان يفتح بيوت لإطعام الحجاج وعابري السبيل، وله ابل خصصها لخدمة الكعبة، وحتى أن قريش أطلقت  عليه "الفياض" وأطلقت عليه: مطعم الانس والوحش والطير
وكان ينشد شعرًا رائعًا، وقد جمعت أشعاره الآن في ديوان، يمكن أن تتصفحه على النت، وكان الشعراء عند العرب لهم وضع مميز
هكذا كان "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" لم يكن شخصية عادية وانما كان شخصية أشبه بالشخصية الأسطورية

لم يكن "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" شخصية عادية وانما كان شخصية أشبه بالشخصية الأسطورية

 

عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وحبه الشديد للرسول واعداده له
انتقل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى بيت جده "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" وكان "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" قد تزوج ستة من النساء، ولكن اختار "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكون في بيت زوجته "هالة بنت وهيب" لأن "هالة" هي بنت عم أمه "آمنة بنت وهب" ولأن في البيت "حمزة" صديق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقريب منه، وكان أكبر من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعامين 
وكان "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" شديد الحب والتعلق بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لدرجة الوله والغرام بهذا الطفل الصغير 
وكان يعده ويربيه على تحمل المسئولية، ويرسله في قضاء حاجاته، وفي يوم أرسله ليسوق الإبل، وكان موسم حج، والزحام شديد، فتأخر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان موسم حج كما ذكرنا وليس من السهر أبدًا البحث عن طفل صغير وسط هذا الزحام، فأخذ "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" يطوف بالكعبة، وهو يدعو الله تعالى ويقول 
ربّي ردّ إلـيّ محمّدا        ربّ واصطنع عندي يدا
ورأي بعض الحجيج "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" في هذا الموقف فتركوا مناسكهم، وأخذوا يبحثون عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى جاءوا به وهو يسوق الإبل، فاستقبله "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" واحتضنه وهو يبكي ويقول: "والله لقد جزعت عليك يا بنى جزعًا لم أجزعه على شيء، والله لا أبعثك في حاجة أبدًا، ولا تفارقني بعد هذا أبدًا
وذكرنا أن "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" كان قد اعتاد على أن يرسل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قضاء حاجته، لأنه يريد أن يعوده على تحمل المسئولية، لأنه كان يقين أن حفيده ليس طفلًا عاديًا وأنه سيكون له شأن عظيم
وذكرنا كذلك أن "عبد المطلب" كان له مجلس كل يوم عند الكعبة، ويجلس معه أبناءه وسادة قريش، وكان لا يجلس أحد على البساط الذي يجلس عليه لهيبته، فيأتي النبي وهو غلام عمره ستة سنوات يريد أن يجلس بجوار جده، فينهره أعمامه، فيقول لهم عبد المطلب: دعوا ابنى، ويمسح على ظهره ويقول: إن لإبنى هذا لشأن 
وكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو أيضُا يحب جده حبًا شديدًا، وتعلق به تعلقًا شديدًا، واستطاع "عبد المطلب" أن يعوض الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن بعض حنان أمه الراحلة السيدة آمنة

الرسول وموعد جديد مع الحزن
ولكن هذا الأمر لم يدم طويلًا، فلم يمر عامان حتى كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع موعد جديد مع الحزن، حيث يموت "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" ويحزن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حزنًا شديدًا ويبكي بكاءًا مرًا 
تقول حاضنته "بركة" رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينتحي خلف سرير "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" يبكي
و كلمة "ينتحي" في اللغة ؟ يعنى قصد مكان بعيد عن الناس
كان الكل مشغولًا بموت سيد قريش، ولم يلق أحدًا بالًا لهذا الصبي الصغير اليتيم، الذي ربما كان أكثر من تأثر وحزن لموت "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" ولم يلتفت اليه الا حاضنته "بركة" التى رأته يقصد مكانًا بعيدًا عن الناس خلف سرير "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" وأخذ يبكي
كان عمر "عبد المطلب" حين توفي ثمانية وتسعون عامًا، وعمر النبي ثمانية أعوم

توفي "عبد المطلب" وحزن الرسول حزنًا شديدًا

اليتم الثالث في حياة الرسول
كانت وفاة "عبد المطلب" هي اليتم الثالث في حياة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 
اليتم الأول كان حين مات أبوه وهو لا يزال جنينًا في بطن أمه
وتعريف اليتيم من الناس هو من مات عنه أبوه قبل سن البلوغ، فاذا بلغ سن البلوغ ينقطع عنه هذا الوصف
ولذلك اذا قلت أن هذا طفل يتيم فمعنى هذا أن أبوه قد مات، ويمكن أن تقول أنه يتيم الأم، اذا أردت أن تقول أنه فقد أمه، ويمكن أن تقول يتيم الأبوين اذا أدرت أن تقول أنه فقد أبوه وأمه، والأصح في اللغة أن تقول أن "لطيم" وهو الذي فقد أبوه وأمه، ولكن اذا قلت أنه "يتيم" وسكت فمعنى هذا أنه قد فقد أباه
واليتيم من الحيوانات هو الذي ماتت أمه، واليتيم من الطير هو من ماتت أمه وأبوه
فالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتيمًا لأنه فقد أباه، بل هو لم يراه أباه أبدًا، لأنه مات وهو لا يزال جنينًا في بطن أمه، وأصعب أنواع اليتم هو الطفل الذي لم يرَ أباه أبدًا
ثم كان اليتم الثاني، حين فقد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمه وهو ابن ست سنوات
ثم كان اليتم الثالث حين فقد جده "عبد المطلب" وعمره ثمانية سنوات

  اعداد الله للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كان هذا اليتم مرة ثم مرة ثم مرة حلقة مهمة في سبيل اعداد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكل الحوادث التى مر بها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منذ ولادته حتى بعثته كانت كلها تصب في خانة اعداد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهذه المهمة العظيمة جدًا، وهي مهمة انقاذ البشرية 
وقد كان من حكمة هذا اليتم أن ينشأ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعيدًا عن الذراع التى تمعن في تدليله، حتى ينشأ شخصية صلبة قادرة على تحمل المسئولية، لأنه سيتحمل مسئولة ليست أسرة ولا مجموعة ولا قبيلة، ولكنه سيتحمل مسئولية البشرية كلها 
وفي نفس الوقت لا يحرم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الحنان الذي يحتاجه كل طفل حتى ينشأ شخصية سوية، ففي أول عامين كان الحب الشديد من مرضعته "حليمة" وزوجها "الحارث" ثم كان الحب والحنان والرعاية في كنف أمه من عمر عامين حتى ستة أعوام، وأمه من قريش، ونساء قريش أكثر النساء حنانًا، ثم انتقل الى بيت جده، فكان في رعاية "هالة بنت وهيب" وهي ابنة عم أمه، ورعاية جده الذي أحبه الى درجة الوله به، ثم كفالة عمه –كما ستري فيما بعد- وكانت زوجة عمه –فاطمة بنت أسد- تحبه لدرجة أنها تحرم نفسها وأطفالها من الطعام لتعطيه لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وهذا هو الاعداد الرباني للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا يكون هناك تدليل حتى ينشأ قادرًا على تحمل المسئولية، وفي نفس الوقت حب وحنان ورعاية شديدة حتى يكون شخصية سوية
آفة الأيتام في مجتمعاتنا
ولذلك أنا أقول ان آفة الأيتام في مجتمعاتنا سواء يتم حقيقي بفقد الأب أو الأم، أو اليتيم الحكمي، وهم اللقطاء أو الذي يسجن أبوه أو أمه لفترة طويلة، أو الأسرة التى يهجرها الأب، أو الذي يطلق زوجته ولا يهتم برعاية أبنائه أو حتى رؤيتهم، كل هؤلاء في حكم الأيتام 
آفة هؤلاء هو أنهم يحرمون من الحنان، فتحدث لهم اضطرابات نفسية، ويصبحون عدوانيين وحاقدين على المجتمع، ولو احسنا رعاية هؤلاء الأيتام واعطيناهم ما يحتاجون اليه من حب وحنان، لنشأت شخصيات سوية له قدرة هائلة وفذة وعبقرية على تحمل المسئولية

آفة الأيتام هو الحرمان من الحنان
أطفال الشوارع يمكن أن يكون لهم دورًا رئيسيًا في النهضة
قرأت رقمًا مفزعًا أن أعداد أطفال الشوارع في مصر، اثنين مليون ونصف المليون طفل، والتعبير الذي نسمعه دائمًا أن أطفال الشوارع قنابل موقوتة، هو بالفعل تعبير صحيح تمامًا، ولكنه نتيجة خطأ فادح لا يغتفر ارتكبناه في حق هؤلاء الأطفال وفي حق المجتمع كله، وهو أننا حرمناهم من أعظم وأهم احتياجاتهم وهي الحب والحنان، ولو فعلنا ذلك لكان لهؤلاء الأطفال الأيتام  سواء أيتام حقيقين أو لقطاء أو أطفال شوارع أو غير ذلك أن نجعل لهم دورًا رئيسيًا في صناعة النهضة

أطفال الشوارع يمكن أن يكون لهم دورًا رئيسيًا في صناعة النهضة
نقطة ثانية في سبيل اعداد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ثمانية سنوات فقط انتقل بين أربعة بيوت، وهي أولًا بيت حليمة والحارث في خيمة في الصحراء، ثم بيت أمه، ثم بيت جده، ثم بيت عمه، هذا الانتقال بين أربعة بيوت في ثمانية أعوام فقط، عَلَّمَ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  المرونة في التعامل مع ظروف الحياة المختلفة، وهي صفة هامة جدًا وأساسية لمن أُرْسِّلَ لهداية البشرية كلها، ولم يرسل الى طائفة معينة، ونحن نري الذي يفتقد هذه الصفة الهامة وهي صفة المرونة يعاني كثيرًا في عمله وفي حياته الأسرية
نقطة ثالثة في سبيل اعداد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
المصائب التى أصابت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منذ طفولته كموت أمه أمام عينيه، ثم موت جده الحبيب بعد أن حرم عطف الأب، وذاق -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كأس الحزن مرة بعد مرة بعد مرة، هذه المحن جعلته رقيق القلب مرهف الشعور، لأن الأحزان تصهر النفوس وتخلصها من أدران القسوة والكبر والغرور وتجعلها أكثر رقة وتواضعًا 

مات "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" وعمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثمانية أعوام، وقبل أن يموت "عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" أوصى أن يكفل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمه أبو طالب، وهذا سيكون حديثنا في الفصل القادم ان شاء الله تعالى