Untitled Document

عدد المشاهدات : 176

الحلقة (533) من "تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم" تفسير وتدبر الآية (118) من سورة "التَوْبًة" (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ......

الحلقة رقم (533)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)
تفسير وتدبر الآية (118) من سورة "التوبة" ص 206
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118).

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

تتحدث الآية الكريمة عن ثلاثة من المؤمنين الذين تحلفوا عن الخروج مع الرسول ﷺ في غزوة "تبوك" وهؤلاء الثلاثة هم: كعب بن مالك، مُرارةُ بنُ ربيعةَ، وهلالُ بنُ أميَّةَ.
والقصة مذكورة في صحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما من كتب السنن، والذي يروي هذه القصة أحد هؤلاء الثلاثة وهو "كعب بن مالك" يقول "كعب": 
(لمْ أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ ﷺ في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلَّا في غزوةِ تبوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفتُ في غزوةِ بدرٍ، ولم يعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرج رسولُ اللهِ ﷺ والمُسلِمونَ، يريدون عِيرَ قريشٍ، حتى جمَع اللهُ بينهم وبينَ عدوِّهم على غيرِ مِيعادٍ) 
يعنى يقول أن الذي تخلف عن الخروج مع الرسول ﷺ في غزوة بدر لا يعتبر قد تخلف عن الرسول ﷺ لأن الرسول ﷺ لم يأمر بالخروج للقتال في بدر، وانما خرج حتى يعترض عير قريش أو القافلة التجارية لقريش، ثم وقع القتال دون الاستعداد لذلك.
يقول "كعب": ولقد شهدتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ليلةَ العَقَبةِ حين تواثقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهدَ بدرٍ، وإن كانت بدرٌ أذكَرَ في النَّاسِ مِنها. 
يعنى أنا شهدت بيعة العقبة وهي عندي أحب من أن أشهد بدر، وان كانت بدر مشهورة عند الناس أكثر من غيرها.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

ثم يبدأ كعب يقص تخلفه عن الرسول ﷺ في غزوة "تبوك" فيقول: 
(وكان مِن خَبَري حين تخلَّفتُ عن رسولِ اللهِ ﷺ في غزوةِ تبوكَ أنِّي لم أكُنْ قَطُّ أقْوى، ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفتُ عنه في تلك الغزوةِ؛ واللهِ ما جمعتُ قبلَها راحلتَين قطُّ، حتى جمعتُهما في تلك الغزوةِ.
(يعنى أكثر وقت كنت مستعد فيه للخروج للقتال كان حين دعا الرسول الى الخروج الى تبوك، والمرة الوحيدة التي كنت أملك فيها راحلتين كان في ذلك الوقت، يعنى ليس عنده أي حجة في عدم الخروج)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 ثم يذكر كعب ما الذي كسله عن الخروج، فيقول: 
(فغزاها رسولُ اللهِ ﷺ في حرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفرًا بعيدًا ومَفازًا) 
سفرًا بعيدًا لأن المسافة بين المدينة وبين "تبوك" -كما ذكرنا- حوالى 700 كم على حسب الطرق المعبدة الآن. (ومَفازًا) يعنى صحراء مهلكة. 
(واستقبل عدوًّا كثيرًا) الإمبراطورية الرومانية، أقوي قوة في العالم في ذلك الوقت. 

(فجَلَا للمُسلِمينَ أمرَهم؛ ليتأهَّبوا أُهبَةَ غَزوِهم) 
كان الرسول ﷺ اذا خرج للغزو لا يذكر أبدًا الوجهة التي سيخرج ليها، حتى يفاجيء عدوه، وكان عامل المفاجأة أحد أهم عوامل النصر في ذلك الوقت، انما في هذه الغزوة بالتحديد، (جَلَا للمُسلِمينَ أمرَهم) حدد لهم الوجهة التي سيذهب اليها (ليتأهَّبوا أُهبَةَ غَزوِهم) حتى يستعدوا لهذه الرحلة الطويلة بالزاد والماء والراحلة وغير ذلك من متاع السفر، وحتى يكونوا مستعدين نفسيًا للصعوبات التي سيواجهونها خلال هذه الرحلة الصعبة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

يقول كعبٌ: (والمُسلِمونَ مع رسولِ اللهِ ﷺ كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، فكان الرجلٌ يريدُ أن يتغيَّبَ يَظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفى له) 
يعنى عدد المسلمين كثير جدًا، ثلاثون ألف مقاتل، وهذا أكبر عدد تجمع في تاريخ الجزيرة العربية حتى ذلك الوقت، فكان الذي يريد أن يتغيب يعتقد أن تغيبه لن يلاحظ، فهذا سهل التغيب لمن يريد أن يتغيب.
(وغزا رسولُ اللهِ ﷺ تلك الغزوةَ حين طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ) 
يعنى الغزوة كانت في وقت جنى الثمار، وأغلب أهل المدينة فلاحون، وكانوا يحبون في هذا الوقت من العام أن يجلسوا في ظلال الأشجار ويأكلوا من الثمار. 
(فتجهَّز رسولُ اللهِ ﷺ والمُسلِمونَ معه، وطفِقتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أردتُ)  
(فلم يزلْ ذلك يتمادَى بي حتى استمرَّ بالنَّاسِ الجِدُّ، فأصبح رسولُ اللهِ ﷺ غاديًا والمُسلِمونَ معه، ولم أقضِ من جَهازي شيئًا، فلم يزلْ ذلك يتمادَى بي حتى أسرعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحلَ فأُدرِكَهم، فيا ليتني فعلتُ! ثم لم يُقَدَّرْ ذلك لي)


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

أحد الصحابة من الأنصار فعل ما كان "كعب بن مالك" يتمنى لو كان قد فعله، واسمه "أبو خيثمة" روي أنه دخل بستانه وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظلّ، وبسطت له الحصير، وقرّبت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظلّ ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله ﷺ في الضحّ والريح.
(الضحّ هو أشعة الشمس القوية)
ثم قال: ما هذا بخير، فقام وأخذ سيفه ورمحه وانطلق كالريح، حتى أدرك الجيش، ورأي المسلمون رجلًا على الطريق، فقالوا: يا رسول الله هذا رجل يمشي على الطريق،  فقال:  ﷺ "كن أبا خيثمة" فكان هو.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

يقول كعب بن مالك: (فطفقتُ إذا خرجتُ في النَّاسِ بعدَ خروجِ رسولِ اللهِ ﷺ، يَحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسوةً إلَّا رجلًا معلومٌ نفاقه، أو رجلًا ممَّن عذَر اللهُ من الضُّعفاءِ) 
(ولم يَذكُرْني رسولُ اللهِ ﷺ حتى بلغَ تَبوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبوكَ: ما فعل كعبُ بنُ مالكٍ؟ قال رجلٌ من بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسه بُرْدَاه، والنَّظَرُ في عِطْفَيه)

البردة هو ثوب مثل العباءة، و"عِطْفَيه" يعنى جانبي الثوب، يعنى الذي منعه هو أنه يريد أن يقعد في المدينة يرتدي ملابس فاخرة، ويسير مختالًا ينظر الى ملابسه وهو يسير بها، فقول هذا الرجل من بَني سَلِمةَ: حبَسه بُرْدَاه، والنَّظَرُ في عِطْفَيه، يعنى الذي منعه من الخروج هو ميله الى التنعم.
(فقال له معاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما علِمْنا عليه إلَّا خَيرًا) فسَكَتَ رسولُ اللهِ ﷺ 


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

يقول كعبُ بنُ مالكٍ: (فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قد توجَّه قافِلًا من تبوكَ، حَضَرني بثِّي)
يعنى غلب علىَّ الحزن
(فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكذبَ، وأقولُ: بم أَخرجُ من سخَطِه غَدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ من أهلي) يعنى الذي جاء في ذهنه أن يكذب على الرسول ﷺ وأخذ يسأل ما الذي يقوله للرسول ﷺ   

(فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قد أظلَّ قادمًا، زاح عني الباطلُ، فأجمعتُ صِدْقَه) عندما عرفت أن الرسول قادم ذهبت فكرة أني أكذب عليه، وقررـ أن أقول له الصدق. 
(وصبَّحَ رسولُ اللهِ ﷺ قادمًا) يعنى جاء صباحًا 
(وكان إذا قدِم مِن سَفَرٍ بدأَ بالمَسجِدِ، فركع فيه ركعتَينِ، ثمَّ جلَسَ للنَّاسِ) وهذه من السنن المهجورة. 
(فلما فعل ذلك جاءَه المُخلَّفونَ، فطَفِقوا يَعتَذِرونَ إليه ويحلِفون له، وكانوا بِضعةً وثمانينَ رَجُلًا، فقَبِل منهم رسولُ اللهِ ﷺ علانِيَتَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَل سرائرَهم إلى اللهِ) بمجرد وصول الرسول ﷺ جاء المنافقن ويعتذرون الى الرسول ﷺ بأعذار كاذبة، وكان الرسول ﷺ يقبل منهم ذلك، ويستغفر لهم، ويوكل سرائرهم الى الله. 
(حتى جئتُ، فلمَّا سَلَّمتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ) 
(ثم قال: تعالَ، فجِئْتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيه. فقال لي: ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظهرَك؟) 

قال: (قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي- واللهِ- لو جلستُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لرأيتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذرٍ، ولقد أُعطِيتُ جَدَلًا، ولَكنِّي- واللهِ- لَقَد عَلِمْتُ لئن حدَّثتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ ترضَى به عني، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ) 
يعنى ممكن أكذب فترضى عني، ولكن الله تعالى سيسخطك علىَّ بعد ذلك. 
(ولَئِنْ حدَّثتُك حديثَ صدقٍ تجِدُ عليَّ فيه، إنِّي لأرجو فيه عُقبَى اللهِ) لو قلت لك كلام صدق وتغضب منى (أرجو بذلك عقبي الله) أرجو أن ينجينى الله بهذا الصدق 
(واللهِ ما كان لي عُذرٌ) 
(واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلَّفتُ عنك) 

قال رسولُ اللهِ ﷺ:
(أمَّا هذا فقَد صَدَق، فقُمْ حتى يقضيَ اللهُ فيك) 
فقُمْتُ وثار رجالٌ من بني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما علِمْناك أذنبتَ ذنبًا قبلَ هذا. لقد عَجَزتَ في ألَّا تكونَ اعتذرتَ إلى رسولِ اللهِ ﷺ بما اعتذر به إليه المُخلَّفونَ؛ فقد كان كافِيَك ذنبَك استغفارُ رسولِ اللهِ ﷺ لك. 
قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبونَني حتى أردتُ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ ﷺ ، فأُكذِّبَ نفسي. 
قال: ثمَّ قلتُ لهم: هل لقِيَ هذا معي من أحدٍ؟ قالوا: نعم، لَقِيه معك رَجُلانِ قالا مثلَ ما قلتَ. فقيل لهما مثلُ ما قيل لك. 
قال: قلتُ: مَن هما؟ 
قالوا: مُرارةُ بنُ ربيعةَ العامريُّ، وهلالُ بنُ أميَّةَ الواقِفيُّ. 
قال: فذكروا لي رجلَينِ صالِحَينِ قد شَهِدا بدرًا فيهما أُسْوةٌ. قال فمضيتُ حين ذَكَروهما لي. 


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

يقول: ونهَى رسولُ اللهِ ﷺ المُسلِمينَ عن كلامِنا 
فاجتنَبَنا النَّاسُ، وتغيَّروا لنا فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خمسينَ ليلةً، فأمَّا صاحباي فاستكانا وقَعَدا في بُيوتِهما يَبكِيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القَومِ وأجلدَهم، فكُنتُ أخرُجُ فأَشهَدُ الصَّلاةَ، وأطوفُ في الأسواقِ، ولا يكلِّمني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ ﷺ ، فأسَلِّمُ عليه وهو في مجلسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّك شفتَيه بردِّ السلامِ أم لا؟ ثم أصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفتُّ نَحوَه أعرَضَ عنِّي. 
حتى إذا طال ذلك عليَّ مِن جَفوةِ المُسلِمينَ، مَشيتُ حتى تسوَّرتُ جِدارَ حائطِ أبي قتادةَ، وهو ابنُ عمِّي، وأحَبُّ النَّاسِ إليَّ، فسَلَّمتُ عليه، فواللهِ ما ردَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قتادةَ، أَنشُدُك باللهِ، هل تعلمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسَكَتَ. فعُدتُ فناشَدْتُه فسَكَتَ. فعُدْتُ فناشَدْتُه. فقال: اللهُ ورسولُه أعلمُ. ففاضَتْ عينايَ، وتَولَّيتُ حتى تسوَّرتُ الجدارَ. 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

فبَيْنا أنا أمشِي في سوقِ المدينةِ، إذا رجلٌ أهلِ الشَّامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يبيعُه بالمَدينةِ، يقول: مَن يدلُّ على كعبِ بنِ مالكٍ؟ قال: فطفِق النَّاسُ يُشيرونَ له إليَّ. حتى جاءني فدفَعَ إليَّ كتابًا من ملِك غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا فقرأتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ؛ فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضْيَعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِكَ. 
قال: فقلتُ حين قرأتُها: وهذه أيضًا من البلاءِ، فتيامَمتُ  بها التَّنُّورَ فسجَرتُه بها.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

حتى إذا مَضَت أربعونَ مِن الخَمسينَ ، إذا رسولُ رسولِ اللهِ ﷺ يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ ﷺ يأمُرُك أن تعتزلَ امرأتَك. قال: فقُلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتَزِلْها فلا تقرَبَنَّها. قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمثلِ ذلك. قال: فقلتُ لامرأَتي: الْحَقي بأهلِكِ فكوني عِندَهم حتى يقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ. 
قال: فجاءت امرأةُ "هلالِ بنِ أميَّةَ" رسولَ اللهِ ﷺ ، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أميَّةَ شيخٌ ليس له خادِمٌ، فهل تكرَهُ أن أخدمَه؟ قال: لا، ولكِنْ لا يَقربَنَّكِ، فقالت: إنَّه- واللهِ- ما به حركةٌ إلى شَيءٍ، وواللهِ ما زال يبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا. 
قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذنتَ رسولَ اللهِ ﷺ في امرأتِك؟ فقد أذِن لامرأةِ هلالِ بنِ أميَّةَ أن تخدمَه. قال: فقلتُ: لا أستأذنُ فيها رسولَ اللهِ ﷺ ، وما يُدريني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ ﷺ إذا استأذنتُه فيها، وأنا رجلٌ شابٌّ. 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

قال: فلبثْتُ بذلك عشرَ ليالٍ، فكَملَ لنا خمسونَ ليلةً مِن حينِ نُهِيَ عن كلامِنا. قال: ثمَّ صلَّيتُ صلاةَ الفَجرِ صباحَ خَمسينَ ليلةً على ظهرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- مِنَّا؛ قد ضاقَت عليَّ نَفسِي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رَحُبَت- سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أَوفَى على "سَلْعٍ" يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ أبشِرْ! قال فخَرَرْتُ ساجِدًا، وعرفتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ. 
قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ ﷺ الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا، حين صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يبَشِّرونَنا، فذَهَبَ قِبَلَ صاحِبَيَّ مُبشِّرون، ورَكَضَ رجلٌ إليَّ فَرسًا، وسعى ساعٍ وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرعَ من الفَرَسِ. 
فلمَّا جاءني الذي سمعتُ صوتَه يُبشِّرُني، نزعتُ له ثوبَيَّ فكَسوتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِك غيرَهما يومَئذٍ، واستَعَرْتُ ثوبَين فلَبِسْتُهما، وانطلقتُ أتأمَّمُ  رسولَ ﷺ ، يتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئونَني بالتوبةِ، حتى دخلتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ ﷺ جالسٌ في المسجدِ، وحولَه الناسُ، فقام "طلحةُ بنُ عُبيدِ اللهِ" يُهروِلُ حتى صافحَني وهنَّأني، واللهِ ما قام رجلٌ من المهاجرينَ غَيرُه. قال: فكان كعبٌ لا ينساها لطلحةَ. 
قال كعبٌ: فلما سلَّمتُ على رسولِ اللهِ ﷺ قال، وهو يبرُقُ وَجهُه من السُّرورِ ويقول: أبشِرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذُ ولدَتْك أمُّك. قال: فقلتُ: أمِن عِندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: لا، بل مِن عندِ اللهِ. 
وكان رسولُ اللهِ ﷺ إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وجهَه قِطعةُ قمَرٍ. 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

قال: فلمَّا جلستُ بين يدَيه، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ من توبتي أن أنخلِعَ من مالي صدقةً إلى اللهِ. فقال ﷺ: أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك، قال: فقلتُ: فإني أُمسِكُ سَهمي الذي بخَيبرَ.


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

يقول: فأنزل الله عزَّ وجَلَّ: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) يعنى وتاب أيضًا (عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
يقول كعبٌ بن مالك: يقول تعالى (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) ليس ذلك يعنى خُلِّفُوا عن الغَزْوِ مثل المنافقين، ولكن يعنى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أرجأ الله -تعالى- توبتهم، وأخر الله تعالى توبتهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)
(بِمَا رَحُبَتْ)
يعنى بِمَا اتسعت، يقال: منزل رحب ورحيب، يعنى واسع.
فهؤلاء الثلاثة ضاقت عَلَيْهِمُ الأَرْضُ على اتساعها.
لأن الإنسان إذا شعر بضيق فانه يترك المكان الذي هو فيه، لعل الضيق ينفك، ولكن هؤلاء قابلوا الضيق في كل مكان ذهبوا إليه حتى ضاقت عَلَيْهِمُ الأَرْضُ على اتساعها.
لأن لا أحد في المدينة يتكلم معهم، ولا يبيع لهم، ولا يشتري منهم، والناس ينظرون اليهم باحتقار، وبعين الإهانة، حتى داخل بيته معتزل زوجته، الرسول ﷺ معرض عنهم.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ)
أي: وضاقَتْ عليهم أنفُسُهم؛ بسبَبِ الهَمِّ والغم والحُزنِ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

سئل "أبي بكر الورّاق" عن التوبة النصوح؟ -أحد علماء القرن الثالث الهجري وكان يلقب بالحكيم- فقال: التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ)
يقول مُجَاهِدٍ: مَا كَانَ مِنْ ظَنٍّ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ يَقِينٌ.
مثل قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) 
فالمعنى: وأيقنوا أنهم لاَّ مَلْجَأَ لهم مِنَ عذاب اللّهِ إِلاَّ بالرجوع اليه.


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ)
أي: ثمَّ وفَّقَهم اللهُ -تعالى- الى التوبة (لِيَتُوبُواْ) لأنه لا يمكن لأحد ان يتوب الا اذا وفقه الله للتوبة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
(التَّوَّابُ)
يعنى كثيرُ قَبولِ التَّوبةِ، (الرَّحِيمُ) ومِن رَحمتِه أن شرع لنا التوبة، ويقبلها منا.  

❇        

لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"

لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو

❇