Untitled Document

عدد المشاهدات : 387

الحلقة (448) من "تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم" تفسير وتدبر الآيات من (85) الى (93) من سورة "الأَعْرَاف" (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ ….

الحلقة رقم (448)
تفسير وتدبر الآيات من (85) الى (93) من سورة "الأَعْرَاف" (ص 161)

        

(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) 


        

بعد أن قصت الآيات الكريمة قصة نوح -عَلَيْهِ السَّلامُ- مع قومه، ثم قصة هود -عَلَيْهِ السَّلامُ- مع قومه عاد، ثم صالح -عَلَيْهِ السَّلامُ- مع قومه "ثمود" ثم قصة لوط -عَلَيْهِ السَّلامُ- مع قومه، تتناول الآيات الكريمة قصة "شُعَيْب" -عَلَيْهِ السَّلامُ- مع قومه "مَدْيَنَ"
و"مَدْيَنَ" هي قبيلة أطلق عليها هذا الاسم نسبة الى جدهم "مَدْيَنَ" و"مَدْيَنَ" من ذرية إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلامُ-، وقيل إنه تزوج أحد بنات لوط -عَلَيْهِ السَّلامُ- ومن ذريتهما جاءت هذه القبيلة الكبيرة، والتي بلغ عددهم نحو خمسة وعشرين ألف.
وسكن أهل "مَدْيَنَ" في المنطقة التي تسمي "معان" الآن في جنوب الأردن.

وهذه المنطقة في طريق التجارة بين الشام والحجاز لذلك كانت أسواق "مَدْيَنَ" مزدهرة، وعمل كثير منهم في التجارة، كما عمل بعضهم في الزراعة ورعي الأغنام، فعاش أهل "مَدْيَنَ" حياة رغدة ومرفهة، ولكنهم تركوا عبادة الله وحده، وارتكبوا الكثير من المفاسد.
        

وأرسل الله تعالى الى "مَدْيَنَ" رسوله "شُعَيْب" و"شُعَيْب" من أنبياء العرب، وأنبياء العرب أربعة فقط وهم: هود وصالح وشعيب ونبينا محمد ﷺ
وقد بعث "شُعَيْب" -عَلَيْهِ السَّلامُ-  بعد "لوط" -عَلَيْهِ السَّلامُ- وقبل يوسف -عَلَيْهِ السَّلامُ-  ولذلك فان قصة "مَدْيَنَ" قريبة من قصة قوم لوط سواء في الزمان أو المكان.

        

وقيل أن "شُعَيْب" -عَلَيْهِ السَّلامُ- كان ضعيف البنية، وقيل أنه كان ضعيف البصر، وقيل أنه كان أعمي، ولكن تميز "شُعَيْب" -عَلَيْهِ السَّلامُ- بأنه كان شديد الفصاحة، قوي الحجة، وقال عنه الرسول ﷺ أنه خطيب الأنبياء.
وقد ذكر القرآن العظيم أن "شُعَيْب" -عَلَيْهِ السَّلامُ- أرسل الى اهل "مَدْيَنَ" وذكر في مواضع أخري أنه أرسل الى أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ، قال بعض العلماء أن "مَدْيَنَ" هم "أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ" والْأَيْكَةِ نوع من الشجر الكبير الملتف، وقد أطلق القرآن على "مَدْيَنَ" هذا الاسم لأنهم كانوا يعبدون شجرة من هذا الشجر.
وقال البعض الآخر أن "مَدْيَنَ" قبيلة و"أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ" قبيلة أخري، كانت تعبد هذه الشجرة، وقد أرسل "شُعَيْب" الى القبيلتين معًا.


        

يقول تعالى (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) يعنى وأرسلنا الى قبيلة "مَدْيَنَ" رسولنا "شُعَيْب" وقال تعالى (أَخَاهُمْ) يعنى واحد منهم يعرفون نسبه وصدقه وأخلاقه.
وعندما تحدث القرآن في سورة الشعراء عن أصحاب الأيكة قال تعالى (كذب أصحاب الأيكة المرسلين * اذ قال لهم شُعَيْب ألا تتقون) فلم يقل تعالى: أَخَاهُمْ شُعَيْب، كما قال بالنسبة لأهل "مَدْيَنَ"
لماذا؟ أما لأن "أصحاب الأيكة" ليسوا هم قوم "مَدْيَنَ" -كما ذهب بعض العلماء- فيكون "شُعَيْب" ليس واحدًا منهم، ولذلك لم يقل (أَخَاهُمْ شُعَيْب) 
وإما أن "أصحاب الأيكة" هم قوم "مَدْيَنَ" ولكنه لم يقل أخاهم في هذا الموضع لأن القرآن نسبهم الى عبادة الأيكة، فلا أخوة بينهم.

        

(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) 
هذه هي دعوة جميع الأنبياء وهي توحيد الله بالعبادة.
(قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) 
يعنى جَاءَتْكُمْ معجزة بَيِّنَةٌ يعنى واضحة تدل على صدق ما أقول، ولم يذكر القرآن ما هي معجزة "شُعَيْب" -عَلَيْهِ السَّلامُ-
        

(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ)  
أعطوا النَّاسَ حقوقهم في الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ، وذكر هذا الأمر لأن الغش في الميزان كان فاشيًا ومنشرًا في أهل "مَدْيَنَ" 
(وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) يعنى وَلَا تنقصوا النَّاسَ حقوقهم، وتظلموهم
فكان قوم "مَدْيَنَ" أهل غصب ونصب وغش واحتيال 

(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) 
يعنى ولا تعملوا في الأرض بالمعاصي، بعد أن خلق الله الأرض على هيئة الصلاح، وبعد أن أصلحها الله تعالى ببعثة الأنبياء.
(ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعنى الأموال التي تربحونها بعد ترك النصب والغش وقطع الطريق مهما كانت قليلة، هي خير من الأموال التي تكون بالنصب والغش وقطع الطريق مهما كانت كثيرة، كما قال تعالى في سورة هود (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)
        

(وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) 
كانت "مَدْيَنَ" كما ذكرنا على طريق التجارة بين الشام والحجاز، فكانت الناس تأتي اليها، وكان "شُعَيْب" يتحدث الى الناس ويدعوهم الى عبادة الله وحده، فكان أهل "مَدْيَنَ" يقعدون على الطريق قبل دخول الناس الى بلدهم ويخوفونهم من "شُعَيْب" ويقولون لهم هذا رجل مجنون وكذاب لا تسمعوا له.
وهذا مثلما كانت تفعله قريش عندما كانت تخوف القبائل التي تأتي الى مكة في موسم الحج، ويقولون للرجل هناك رجل ساحر اسمه "محمد بن عبد الله" إذا سمعت كلامه يسحرك ويفرق بينك وبين قومك وبين أبيك وزوجتك
يقول تعالى
(وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ) أي بِكُلِّ طريق
(تُوعِدُونَ) يعنى تتوعدون وتخوفون الناس من الايمان مع "شُعَيْب".
وقيل ان المعنى هو أنهم ينهاهم عن قطع الطريق، وكانوا يفعلون ذلك.
وقيل انهم كانوا يأخذون أموال مقابل أن يسمحوا للناس بالمرور فنهاهم عن ذلك. 


        

(وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ) 
وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِالله بالإيذاء والتعذيب والقتل.
(وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا) تريدون الطريق معوجة، حتى تتفق مع أهوائهم.
(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) يعنى وَاذْكُرُوا نعمة الله عليكم في أن أعدادكم كانت قليلة (فَكَثَّرَكُمْ) فأصبحت أعدادكم كثيرة.

(وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)
وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الأمم، والشعوب المجاورة كقوم نوح وعاد وثمود ولوط، وكيف أهلكهم الله تعالى.
أو أنه يقصد قوم لوط بالتحديد وهي قري "سدوم" لأنها كانت قريبة من "مدين" سواء في الزمان أو المكان.

        

(وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) 
وان كانت جماعة آمنت بما أُرْسِلْتُ بِهِ، وجماعة أخري لم تؤمن (فَاصْبِرُوا) وانتظروا حتى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا.
(وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) وَهُوَ -تعالى- خَيْرُ من يفصل، وخَيْرُ من يحكم، لأنه ليس في حكمه مَيْلٌ إلى أحدٍ، ولا محاباة لأحدٍ.
        

(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) 
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ)
يعنى ليس كل الملأ كفروا بشعيب، بل كان من الْمَلَأُ –وهم الرؤساء والسادة- من آمن مع شعيب.
وقوله تعالى
(الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) إشارة الى أن الكبر هو الذي جعلهم يرفضون دعوة "شُعَيْب"
(لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا) تخرجون من القرية.
(أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) أو لتعدوا الى ملتنا وهي عبادة الشجرة.
(قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) وهذا سؤال استنكاري، يعنى نعود في ملتكم ونحن كارهين لها، والعقيدة أمر اختياري لا ينفع فيه الاجبار أو الاكراه.


        

ذ(قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) 
(قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) 
قَدِ اختلقنا الكذب عَلَى اللَّهِ إِنْ عُدْنَا الى الكفر.
وقد جعل "شُعَيْب" الكفر كذب على الله تعالى، لآن الكافر يختلق الكذب على الله، فيقول أن الله قال أن نعبد هذه الأصنام حتى تشفع لنا عند الله، والله قال أن له ولد، والله كذا وكذا وهذا كله كذب على الله.

(بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) بَعْدَ أن أنقذنا اللَّهُ مِنْ الكفر.
(وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا) 
لا يمكن أن نعود الى ملتكم مرة أخري، ونترك الحق الذي نحن فيه.
(إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا) وهذا من الأدب مع الله تعالى، كما قال يوسف (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) 
(وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) 
أحاط الله بعلمه كل شَيْءٍ، كأن "شُعَيْب"-عَلَيْهِ السَّلامُ-
 يقول لهم قارنوا بين صفات الله تعالى الذي يعلم كل شيء ما كان وما سيكون، وبين هذه الشجرة التي تعبدونها من دون الله والتي لا تعلم أي شيء.

(عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا) 
عَلَى اللَّهِ اعتمادنا في حمايتنا من ايذائكم لنا. 
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) هذه دعوة "شُعَيْب" -عَلَيْهِ السَّلامُ- على قومه، بعد أن أصروا على الكفر، وبعد أن اشتد ايذائهم للمؤمنين
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ) رَبَّنَا احكم بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ أي بالعدل (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) وَأَنْتَ خَيْرُ من يحكم.
عن ابن عباس قال: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا قَوْلُهُ: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ) حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: "تعالَ أفاتحك"، يعنى: أقاضيك.
يقول "الفراء" الفقيه اللغوي العباسي: أن أهل عُمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح.
        

(وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) 
بعد أن شاهد (الْمَلَأُ) وهم الرؤساء والقادة صلابة شعيب -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين، وخافوا أن ينتشر الايمان بين أهل مدين، قالوا تخويفًا للناس وتثبيطًا لهم (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) اللام لام القسم، يعنى يقسمون لهم أنهم إذا اتبعوا شُعَيْبًا سيكونون خاسرون، لأنهم سيتركون ما نهاهم عنه شُعَيْبًا من الغش في الميزان، وبخس الناس حقوقهم، ويتركون قطع الطريق علي الناس، ويتركون فرض اتاوات على القوافل التي تمر، وكل هذه خسائر في الأموال.
ولذلك كان هؤلاء الكفار يقولون لشعيب كما جاء في سورة هود (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) كأنهم كانوا ينكرون على شعيب -عليه السلام- أن يتدخل الدين في معاملاتهم المالية.


        

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) 
عاقب الله تعالى قوم شعيب بثلاثة أنواع من العذاب لشدة كفرهم وفسادهم:
قال تعالى في هذه الآية
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة الشديدة.
وقال تعالى في سورة هود (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) أي جاءتهم من السماء صيحة عظيمة هائلة، وهي صيحة جبريل -عليه السلام-.
ويقول تعالى في سورة الشعراء (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فقيل أن أهل "مدين" أصابهم حر شديد وأسكن الله الهواء لمدة سبعة أيام، حتى بلغ منهم الجهد، ثم أرسل الله في اليوم السابع سحابة عظيمة فاستبشر أهل "مدين" وتجمعوا تحتها يستظلون بها، ورجاء أن تمطر عليهم، فاذا بالسحابة تمطر عليهم لهبًا ونارًا فهلكوا جميعًا
وأطلق الله على هذا اليوم (عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) اشارة الى هذه الغيمة، التى استظلوا تحتها، والتي جاءهم منها العذاب. 
يقول تعالى
(فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) يعني فَأَصْبَحُوا جثثًا هامدة لا تتحرك.


        

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) 
(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) 
كانت العرب تقول: غنى فلان بمكان كذا، يعنى اقام في هذا المكان وعاش فيه.
فقوله تعالى
(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) يعنى اصبحت قريتهم خالية خاوية، كأنهم لم يكونوا فيها ولم يعيشوا فيها.  
ثم يقول تعالى
(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ) ردًا على قول الكفار (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) ليس الذين اتبعوا شُعَيْبًا خاسرون، بل هم فائزون مفلحون، والخاسرون هم الَّذِينَ كَذَّبُوا شعيب.
        

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) 
يعنى فتركهم شعيب قبل نزول العذاب بهم، وقال في حزن وهو يعزي نفسه (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى) فَكَيْفَ أحزن وكَيْفَ أتألم وكَيْفَ أتوجع (عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ)


        

أخيرًا ذكرنا من قبل في قصة "ثمود" قوم صالح العلاقة بين الهلاك بالصيحة والرجفة، وقلنا اما أن الرجفة هي زلزلة شديدة من الأرض، أو أن الصيحة العظيمة التى جاءتهم من السماء رجفت منها أجسامهم.
في قصة "مَدْيَنَ" نجد كذلك أن الله تعالى عبر عن هلاك أهل "مَدْيَنَ" مرة بالصيحة ومرة بالرجفة، وهذه من الاشارة العلمية المبهرة في القرآن العظيم 
لأن العلماء انتهوا الآن الى أن الصوت عبارة عن اهتزازات تنتقل في الهواء على شكل موجات صوتية، فاذا زاد الصوت عن حد معين فان هذه الاهتزازات تؤدي اهتزاز الأعضاء الداخلية لجسم الانسان، واذا زاد الصوت أكثر ووصل الى حد معين، فانه يدمر أجهزة جسم الانسان.
ولذلك عبر القرآن العظيم في دقة بالغة عن هلاك "ثمود" قوم صالح، وعن هلاك "مَدْيَنَ" قوم "شعيب" مرة بالصيحة ومرة بالرجفة، يعنى جاءتهم صيحة هائلة، رجفت منها أجسامهم، وأدت الى تدمير أجهزة أجسامهم وهلاكهم. 
ولم يكن أحد يتخيل وقت نزول القرآن أن الصوت له قوة تدميرية، وأنه يمكن أن يدمر شعب بأكمله. 


        

أخيرًا يعتقد البعض أن موسي -عَلَيْهِ السَّلامُ- عندما فر من مصر وجاء الى "مَدْيَنَ" ووَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ، ووَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ، ثم تزوج أحدي هاتين الفتاتين، أن هذه الفتاة التى تزوجها هي ابنة نبي الله شعيب، وهذا غير صحيح، لأن الفترة بين "شعيب" وبين "موسي" حوالى ألف سنة.
ولكن ربما بعد أن أهلك الله تعالى أهل "مَدْيَنَ" وكانت –كما ذكرنا- في جنوب الأردن، خرج "شعيب" والذين آمنوا معه واتجهوا الى الجنوب قليلًا، واستقروا في مكان في شمال غرب الجزيرة العربية، وأطلق على قريتهم الجديدة اسم "مَدْيَنَ" أيضًا لأن هذا هو اسم القبيلة، وهذه هي القرية التى لا تزال آثارها موجودة الى الآن، في محافظة تبوك بشمال غرب المملكة السعودية ويطلق عليها "مدائن شعيب" 
وعندما جاء موسي -عَلَيْهِ السَّلامُ- الى هذه القرية هربًا من فرعون، بعد ألف سنة، من وفاة "شعيب" كان أهل المدينة لا يزال بعضهم على التوحيد، أو على دين "شعيب" -عَلَيْهِ السَّلامُ- وتزوج موسي -عَلَيْهِ السَّلامُ- من ابنة رجل صالح، على دين "شعيب" ثم أقام في "مَدْيَنَ" –كما ذكر القرآن- ثماني أو عشر سنوات.
وهناك في مدائن شعيب الأثرية والموجودة الآن في المملكة السعودية، بئر يطلق عليه بئر موسي، لأنه يعتقد أنه البئر الذي استسقي فيه موسي لابنتي الرجل الشيخ الكبير الذي تزوج موسي من أحدهما.

❇        

لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"

لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو

❇