Untitled Document

عدد المشاهدات : 3480

الحلقة (223) من "تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم" تدبر الآيات من (134) الى (136) من سورة "آلَ عِمْرَانَ" قول الله -تَعَالي- (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِن

تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم
الحلقة الثالثة والعشرون بعد المائتين
تدبر الآيات من (134) الى (136) من سورة "آلَ عِمْرَانَ"

❇        

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)

❇        

تحدثنا في الحلقة السابقة عن قول الله تعالى في الآية (133) (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) وقلنا أن الله تعالى ذكر بعد قوله (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) خمسة صفات لِلْمُتَّقِينَ، كأن الله تعالى يقول: أَعِدْتِ الْجَنَّةُ الَّتِي عَرَّضَهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لِلْمُتَّقِينَ، والذين هم صفتهم كذا وكذا وكذا
❇        

يقول تعالى (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء)
و(السَّرَّاء) من السرور، وَ)الضَّرَّاء( من الضرر.
والمعنى أنهم ينفقون أموالهم في سبيل الله، فِي حال الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، والغنى والفقير.
وذكر الله الحالين، لأن البعض لا ينفق ماله وهو في حال الفقر، لأنه يحتاج الى هذا المال، والبعض لا ينفق ماله في حال الغنى لكثرة ما يستحق عليه من زكاة.
فمدح الله –تعالى- الذين ينفقون أموالهم في جميع أحوالهم، فاذا كان غنيًا يخرج زكاة ماله ويزيد على زكاة ماله بالصدقة، واذا كان فقيرًا يتصدق بما يستطيع.
حكي عن بعض السلف: أنه ربما تصدّق ببصلة، وروي عن السيدة عائشة -رضي الله عنها- أنها تصدّقت بحبة عنب 
ولذلك قالوا: فلان لا يقبض يده في يوم العرس ولا يوم الحبس.

❇        

 (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)
هذه هي الصفة الثانية من صفات المتقين.
والكظم : هو حبس الشيء عند امتلائه.
كانت العرب تقول"كَظْمت الْقِرْبَةِ" أو "كَظْمت السِّقَاءَ"يعنى ملأته وسددت عليه.
فمعنى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) الذين يكفون أنفسهم عند الغضب، فلا يتجاوزون في أخذ حقوقهم ممن ظلمهم أو أساء اليهم.
لأن الإنسان اذا تمكن منه الغضب، فانه غالبًا لا يقف عند حد الاعتدال في أخذ حقه ممن ظلمه، بل يتجاوزه الى البغي.

❇        

ثم يقول تعالى (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) وهذه هي الصفة الثالثة من صفات المتقين.
ومعنى العفو يعنى ترك عقوبة من ظلمك أو أساء اليك.
فالعفو مرحلة أعلى من كظم الغيظ.
فكظم الغيظ يعنى لا تتجاوز في أخذ حقك ممن ظلمك أو أساء اليك، أما العفو فهو أن تتنازل عن حقك 

❇        

ثم تأتي مرحلة أسمي و أعلى وهي (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يعنى أن تحسن الى من ظلمك أو أساء اليك.
❇        

روي عن ميمون بن مهران - من كبار العلماء، وكان مؤدب أولاد عمر بن عبد العزيز- أن جاريته جاءت ذات يوم بإناء فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فنظر اليها مغضبًا، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قوله تعالى : "والكاظمين الغيظ" قال لها: قد فعلت .
فقالت: اعمل بما بعده "والعافين عن الناس "
فقال : قد عفوت عنك .
فقالت الجارية : "والله يحب المحسنين"
قال ميمون : أنت حرة لوجه الله تعالى .
فهذه الواقعة تبين المراتب الثلاث.

❇        

روي أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قرأ هذه الآية ثم قَالَ: "إِنَّ هَؤُلاءِ فِي أُمَّتِي قَلِيلٌ إِلا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ كَانُوا كَثِيراً فِي الأُمَمِ الَّتِي مَضَتْ"
❇        

وقد رويت الكثير من الآثار في فضل كظم الغيظ
يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"
يقول النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏:‏ "‏‏مِنْ كَظْمَ غَيْظًا وَهُوَ يُقَدِّرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ، مَلَأَهُ اللَّهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا‏‏‏.‏"
يقول النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏:‏ ‏‏"مِنْ كَظْمَ غَيْظًا وَهُوَ يُقَدِّرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء".
يقول النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي فُلَانٍ؟ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ"
 قال رجل من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يا رسول الله أوصني قال "لا تغضب" قال الرجل: ففكرت حين قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله.
قال رجل: يا رسول الله، ما أشد من كل شيء ؟ قال:غضب الله، قال فما ينجي من غضب الله ؟ قال: لا تغضب.
ورد في بعض الآثار يقول الله تعالى: "يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت" 
وروي في فضل العفو، يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  "ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا"
يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  "مَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا"

❇        

وقوله تعالى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) اشارة علمية هامة، لأن العلم الحديث أثبت أن الغضب يؤثر  تأثيرًا سلبيًا كبيرًا على عدد كبير من أجهزة الجسم، من الدماغوالقلب حتى الجلد والشعر.
وكانت وصية الأطباء هي التحكم في الانفعال، واخماد الغضب، وهو ما أشار الى الله تعالى في قوله تعالى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)

❇        

(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) 
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً) الفاحشة هي كبائر الذنوب، مثل الزنا والربا والسرقة والقتل والظلم وغير ذلك. 
(أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ) أي ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ بصغائر الذنوب.
اذن المعنى اذا ارتكبوا أي نوع من أنواع الذنوب، سواء من الكبائر أو الصغائر.
(ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ) 
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صَاحِبُ الْيَمِينِ أَمِينٌ عَلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ ، فَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أَثْبَتَهَا، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ لَهُ صَاحِبُ الْيَمِينِ: امْكُثْ سِتَّ سَاعَاتٍ، فَإِنِ اسْتَغْفَرَ لَمْ يَكْتُبْ عَلَيْهِ، وَإِلَّا أَثْبَتَ عَلَيْهِ سَيِّئَةً"
(وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) جملة معترضة، أي لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ، لأن الذنب في حق الله، فلن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ.
(وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ)
الإصرار على الذنب يعنى الاستمرار والإقامة على الذنب.
اذن ليست المشكلة هي ارتكاب الذنب، لأن كل ابن آدم خطاء، ولكن المشكلة هي الإصرار على الذنب، يعنى الاقامة والاستمرار على المعصية.
(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن هذه معصية، ويَعْلَمُونَ أن الله مطلع عليهم، ويَعْلَمُونَ أنهم ان تابوا يقبل الله توبتهم.
.
يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا صغيرة مع الإصرار, ولا كبيرة مع الاستغفار
.
روي أنه لما نزلت هذه الآية صرخ إِبْلِيسَ، وجعل يحثو التراب على رأسه، حتى جاءته جنوده وقالوا: ما لك يا سيدنا  ؟ قال: آية نزلت في كتاب الله لا يضر أحداً من بني آدم ذنب بعدها. قالوا: ما هي؟ فاخبرهم قالوا: نفتح لهم باب الأهواء فلا يرون إلا أنهم على الحق.

❇        

روي في سبب نزول هذه الآية روايتين: قيل أنها نزلت في رجل قبل امرأة ثم ندم على ذلك ندمًا شديدًا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك، نزلت هذه الآية 
.
وروي أن الصحابة قالوا‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَنُو إِسْرَائِيلَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنَّا‏!‏ كَانُوا إِذَا أَذْنَبَ أَحَدُهُمْ أَصْبَحَتْ كَفَّارَةُ ذَنْبِهِ مَكْتُوبَةُ فِي عَتَبَةِ بَابِهِ‏:‏ ‏‏اقطع أُذُنَكَ‏‏، ‏‏اقطع أَنْفَكَ‏‏، افْعَلْ كذا ‏!‏ فَسَكَتَ النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَـزَلَ قول الله تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ‏) 
.
ولذلك قال "عبد الله بن مسعود" والذي نفسي بيده لقد أعطانا الله آية لهي أحب إليَّ من الدنيا وما فيها.

❇        

(أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)
(أُوْلَئِكَ) يعنى هؤلاء المتقين الذين ذكر الله –تعالى- صفتهم وعملهم.
(جَزَاؤُهُم) أي ثوابهم على أعمالهم.
(مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ) سيغفر الله تعالى ذنوبهم، ولن يعاقبهم عليها.
(وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) أي بساتين تجري من خِلَالَ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ.
(خَالِدِينَ فِيهَا) أي ماكثين فيه ، لا يموتون.
(وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) وَنِعْمَ ثَوَابُ الْمُطِيعِينَ، فهي مدح من الله تعالى للجنة.

❇        

يقول القرطبي في تفسيره: ويمكن أن يتصل هذا بقصة أحد، أي من فر ثم تاب ولم يصر فله مغفرة الله .
❇        

وروي أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى موسى: ما أقلّ حياء من يطمع في جنتي بغير عمل.
❇        

وعن رابعة العدوية–رحمه الله- أنها كانت تنشد:
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا * إنّ السَّفِينَةَ لاَ تَجْرِي عَلَى اليَبَسِ

 

❇        

لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"

لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو

 ❇