Untitled Document

عدد المشاهدات : 7056

شاهد صور الحلقة (131) من" تَدَبُر القُرْآنَ العَظِيمِ" تَدَبُر الآية (216) مِنْ سُورَةِ البَقَرَة، قول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُ

  تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الحادية والثلاثون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (216) من سورة البقرة
********
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) 
********
بعد أن حض الله تعالى في الآية السابقة على بذل المال، يحض الله تعالى في هذه الآية على بذل النفس، فيقول تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) أي: فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ
(وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) وقرأت (وَهُوَ كَرْهٌ لَكُمْ) بفتح الكاف، والقراءة بالضم هي قراءة الجمهور
والكُرْهٌ، هو الكراهية ونفرة الطبع من الشيء
فمعنى قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي: فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ، وأنتم تكرهون القتال 
والسؤال: كيف كان القتال مكروها، مع أن الصحابة الكرام كان الموت في سبيل الله أحب إليهم من الحياة، وكانوا يقاتلون وهم يسعون الى الشهادة سعيًا، بل ويدعون الله تعالى ان يرزقهم هذه الشهادة  
نقول أن معنى قوله تعالى (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) يعنى وأنتم تكرهون القتال، يعنى طبيعة الانسان أن يكره القتال، لأن القتال يعنى أن تقتل انسانًا، وتُعَرِضَ نفسك للقتل وللجراح وقطع الأعضاء، والاصابة بالعاهات، والتشويه، وغير ذلك من الويلات والشدائد
فالانسان الذي يحب القتال لذات القتال هو انسان غير طبيعي، بل يكون هذا ناتجًا عن اضطراب نفسي، ويطلق عليه في علم النفس "السادية" 
اذن قوله تعالى (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) يعنى القتال لذاته مكروهًا للنفس، ولكن مع ذلك فالمسلم يحب القتال في سبيل الله تنفيذًا لأمر الله تعالى، وطمعًا في ثوابه، ورغبة في اعلاء كلمة الله، بل ويحب أن يقتل في سبيل الله طلبًا للشهادة ودخول الجنة
يقول الرَسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق".
وهذا الأمر ينسحب على كل تكليف، لأن كل تكليف فيه مشقة، فالصيام مثلًا فرض علينا، وفيه مشقة، ومن الطبيعي أن يكره الانسان أن يمتنع عن الطعام والشراب، ولكن مع ذلك تجد المؤمن يحب الصيام، وينتظر قدوم شهر رمضان، ويحتفل بقدومه، وبعد أن ينتهي الشهر يغتم لانقضائه، بل ويصوم بعدها ستة أيام في شوال
فهو يحب الصيام مع مشقته، لأنه تنفيذ لأمر الله تعالى، ولأنه يرجو الثواب الجزيل من وراء الصيام
وكذلك القتال (هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) يعنى أنتم بطبيعتكم الانسانية تكرهون القتال، ولكن هذا لا يمنع أن يحب المسلم قتال أعداء الله، تنفيذًا لأمر الله تعالى، وطمعًا في ثوابه، ورغبة في اعلاء كلمة الله، وطلبًا للشهادة ودخول الجنة
********
(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)
يعنى (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا) وهو القتال (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأن القتال فيه إحدى الحسنيين: إما النصر على الأعداء في الدنيا مع نيل ثواب الجهاد في سبيل الله، وإما الشهادة ودخول أعلى درجات الجنة
(وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا) وهو القعود عن القتال، لأن فيه صون النفس عن المخاطر (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وَهُوَ في الواقع شَرٌّ لَكُمْ لما فيه من الذل ووقوعكم تحت طائلة الأعداء، ونقصان الاجر يوم القيامة
 

********
وقد مر بنا قول الله تعالى (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وقلنا أن "التهلكة" هي ترك الجهاد في سبيل الله
ويقول الرسول الرَسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْجِهَادَ إِلا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ"
ويقول الرَسُولَ "ما ترك قوم الجهاد إلا ذلُّوا"
يقول الامام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" : وهذا ما حدث في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد ، وأي بلاد ؟! وأسر وقتل وسبى واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته
وبالطبع ما قاله الامام القرطبي منذ مئات السنين ينطبق تمامًا على ما تمر به الامة الاسلامية الآن
********
والجمهور على ان الجهاد "فرض كفاية" اذا قام به البعض وكانوا قادرين على مواجهة العدو وهزيمته سقط عن الباقين
وفرض الكفاية مثل صلاة الجنازة ورد السلام
 

********
ثم يختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى (والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) يعنى الله تعالى يعلم ما فيه مصالحكم وما فيه منافعكم، فبادروا إلى ما يأمركم به، سواء أعرفت الحكمة منه أم لم تعرف
********
اذن معنى الآية أن الله تعالى فرض عليكم القتال، والله تعالى يعلم أن القتال أمر مكروه لديكم، لما في القتال من ويلات وشدائد وصعاب، ولكن (عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا) وهو القتال (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأن القتال فيه إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة
(وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا) وهو القعود عن القتال (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وَهُوَ في الواقع شَرٌّ لَكُمْ لما فيه من الذل ووقوعكم تحت طائلة الأعداء
تعالى (والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) يعنى والله تعالى يعلم ما فيه مصالحكم وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
********
(عَسَى) عَسَى في كلام البشر تفيد الرجاء مع الشك، فتاتي بمعنى (قد) كما نقول: عَسَى أن أنجح هذا العام - عَسَى أن أسافر للحج - عَسَى أن اقابل فلان 
أو كما يقول الشاعر:
عَسَى الكَرْبُ الذي أمْسَيْتُ فيه...يكونُ وَرَاءَه فَرَجٌ قَرِيبُ 
أما (عَسَى) في القرآن العظيم، فهي لا تفيد الرجاء مع الشك، لأن المتحدث هو الله تعالى، ولأن المتحدث هو الله فهي تفيد الوجوب أو التحقيق، يعنى تحقق الوقوع 
قال العلماء كُلُّ (عَسَى) فِي الْقُرْآنِ تفيد الوجوب الا في موضعين فقط، قوله تعالى (عَسَى رَبُّهِ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) وَفِي قوله تعالى عن بَنِي إِسْرَائِيلَ (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ)
اذن (عَسَى) في هذا الموضع لا تفيد الرجاء مع الشك وانما تفيد الوجوب والتحقيق
فهل المعنى أن كل شيء نكرهه يكون خيرًا، وكل شيء نحبه يكون شرًا ؟
لا، ليس هذا هو المعنى، ولكن المعنى أن كل شيء أمر به الله تعالى، وكل تكليف من الله تعالى، فعاقبته خير وان كرهته نفوسنا
وكل شيء نهي عنه الله تعالى، فستكون عاقبته شرًا، وان مالت اليه نفوسنا
لأن الآية بدأت بقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) أي فرض عَلَيْنَا الْقِتَالُ، وطالما فرض عَلَيْنَا الْقِتَالُ فلابد أنه خير، حتى وان كرهته نفوسنا
 

********
وليس ما فرضه الله تعالى علينا فقط، ولكن كل شيء قدره الله تعالى علينا، فهو خير، لأن الله تعالى لا يأتي بالشر أبدًا، والله تعالى لا يأتي الا بخير
قال ابن عباس : كنت رِدْف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا ابن عباس ارض عن الله بما قدر وإن كان خلاف هواك، إنه لمثبت في كتاب الله عز وجل"، قلت: يا رسول الله، أين وقد قرأت القرآن؟ قال: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)
يقول الشيخ الشعرواي: الله سبحانه منعه عطاء، وعطائه زيادة في العطاء
يقول الامام عطاء الله السكندري في حكمه "العطاء من الخلق حرمان، و المنع من الله إحسان"
ومن حكمه أيضًا قال "رُبَّما أَعْطاكَ فَمَنَعَكَ، وَرُبَّما مَنَعَكَ فأَعْطاكَ، إن فتح لك باب الفهم في المنع، عاد المنع عين العطاء، إنَّما يُؤلِمُكَ المَنْعُ لِعَدَمِ فَهْمِكَ عَنِ اللهِ فيهِ."
يقول الشيخ العريفي في آداب الدعاء:  لا ينبغي أن يخصص في الدعاء شيئاً بعينه بل يقول:
"اللهم أكتب لي هذا الشئ إن كان لي فيه خيراً, واصرفه عني إن كان شراً لي"
 

********
لذلك فان قوله تعالى (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) هو عام في الأمور كلها
وقصة موسى مع الخضر، كلها تدور حول هذا المعنى الهام، السفينة التى خرقها، والغلام الذي قتله، والجدار الذي أقامه
قصة يوسف كذلك تدور هذا المعنى، فحب يعقوب ليوسف –عليها السلام- أمرًا جميلًا، ولكنه كان وبالًا على يوسف، لأن هذا الحب كان سبب في غيرة اخوته والقاءه في الجب، ولما ألقي في الجب كان شيئًا سيئًا ولكنه كان سببًا في أن ينشأ في قصر العزيز، وكانت نشأته في قصر العزيز شيئًا جيدًا ولكن كان ذلك سببًا في دخوله السجن، ولما دخل السجن كان شيئًا سيئًا ولكنه كان سببًا في أن يصبح عزيز مصر
والقصص في ذلك كثيرة جدًا لا حصر لها، وكل واحد فينا لها أكثر من قصة، في أمور كرهها في أول الأمر واغتم لوقوعها، ثم وجد بعد ذلك أن فيها كل الخير، والعكس صحيح
تجد مثلًا فتاة تريد الزواج من شاب، ولكنه لا يتزوجها ويتزوج صديقتها، ويكون هذا الأمر أسوأ شيء في حياتها، لدرجة أنها تتمنى الموت، ثم بعد ذلك تكتشف أنه انسان سيء وتعيش صديقتها حياة زوجية تعيسة
شاب يريد أن يعمل في وظيفة ولكنه لم يوفق في العمل بها، ويوم عدم قبوله كان أسوأ يوم في حياته، ولكن هذا كان سببًا في أن يعمل في وظيفة أخري أفضل ويترقي فيها ويشغل مركزًا مرموقًا
وهكذا القصص كما ذكرنا كثيرة جدًا، وكل منا مر بمثل هذه التجارب
 

 

من القصص في ذلك:
كان لأحد الملوك وزير حكيم، وكان كلما أصاب الملك ما يكدره يقول له الوزير : لعله خير، فكان هذا يغيظ الملك 
وفي إحدى المرات قُطع إصبع الملك في حادثة، فقال له الوزير: لعله خير!
فغضب الملك غضباً شديداً، وصاح في الوزير: وما الخير في أن يقطع اصبعي ؟ فلم يرد الوزير، فأمر الملك بحبس الوزير، فقال له الوزير الحكيم: لعله خير، فازداد غيظ الملك منه
ومكث الوزير فترة في السجن
وفي يوم خرج الملك للصيد وابتعد عن الحراس ليتعقب فريسته، فوقع في يد قبيلة يعبدون صنم، فأخذوا الملك ليقدموه قربانًا لصنمهم، وقبل أن يذبحوه انتبه ساحر القبيلة الى أن الملك مقطوع الاصبع، فصاح فيهم أن يتركوا الملك، لأن القربان يجب أن خاليًا من أي عيب، والا حلت بهم اللعنة
فانصرف الملك فرحًا بنجاته، وكان أول شيء فعله عندما عاد الى قصره أن استدعي الوزير واعتذر له وقال لعله: كنت محقًا فقد كان قطع اصبعي خيرًا، ولولا قطع اصبعي لكنت قد ذبحت وأصبحت قربانًا لهذا الصنم
ثم سأل الوزير وقال له: عندما أمرت بحبسك قلت كما تقول دائمًا "لعله خير" فما في دخولك السجن ؟!
فقال الوزير الحكيم: لو لم تحبسنى لكنت معك في رحلة الصيد، وكنت سأكون قربانًا للصنم بدلًا منك