ٱلْفَصْلُ ٱلْعِشْرُونَ: أُمُّنَا ٱلْعَظِيمَةُ ٱلطَّاهِرَةُ ٱلنَّقِيَّةُ (خَدِيجَةُ)

أُحِبُكَ نَبِي

(السِيرَة النَبَوية العَطِرَة فِي حَلَقَات)

الكتاب الثَانِي: مِنْ وِلاَدَة الرَسُول حَتَى مَبْعَثِهِ ﷺ

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

ٱلْفَصْلُ ٱلْعِشْرُونَ: أُمُّنَا ٱلْعَظِيمَةُ ٱلطَّاهِرَةُ ٱلنَّقِيَّةُ (خَدِيجَةُ)

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°


انتهينا في الفصل السابق حين تزوج الرسول من السيدة خديجة، وكان عمر النبي حين تزوج السيدة خديجة خمسة وعشرون عامًا، وعمر السيدة خديجة أربعون عامًا.

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

الفارق العمري بين الرسول وبين "خديجة" يُلْجِم ألسنة الحاقدين.

وهذا الفارق العمري بين الرسول ﷺ وبين السيدة خديجة، فيه ما يلجم ألسنة وأقلام الحاقدين على الإسلام، والذين تصوروا أن تعدد زوجات الرسول ﷺ يمكن أن يكون هدفًا يلقون اليه سهامهم، أو يصاب منه الإسلام.

لأن الرسول عاش حتى بلغ عمره خمسة وعشرين عامًا، في بيئة جاهلية، وقد انتشر فيها الزنا والانحلال الخلقي، ولم يقترب ﷺ ولو لمرة واحدة من هذه الأمور.

ثم تزوج بعد ذلك من السيدة خديجة، وهي أكبر منه بخمسة عشر عامًا، وظل هذا الزواج قائمًا حتى توفيت –رضى الله عنها- وعمرها خمسة وستون عامًا، وعمر الرسول قد تعدي الخمسين عامًا، أي أنه كان قد تجاوز مرحلة الشباب والكهولة ودخل في سن الشيخوخة، ولم يفكر طوال هذه المدة في الزواج بأي امرأة أخري.

وما بين العشرين والخمسين من عمر الرجل هي الفترة التي تتحرك فيها رغبة الاستزادة من النساء للدوافع الشهوانية.

وسنجد بعد ذلك أن كل زواج للرسول ﷺ كانت له سببًا وحكمة، تزيد من ايماننا بعظمة الرسول ﷺ ورفعة شأنه وكمال خلقه.

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

في بيت "خديجة"

انتقل ﷺ الى بيت السيدة خديجة، وعاش في هذا البيت 28 سنة حتى هاجر الى المدينة، وهو أكثر مكان أقام فيه الرسول ﷺ.

ومكان هذا البيت الآن في منطقة المروة، فعندما تذهب لأداء الحج أو العمرة، وبعد أن تنتهي من السعي وتخرج من باب المروة، توقف قليلًا في هذا المكان، وتذكر أن بيت الرسول ﷺ وأمنا خديجة كان في هذه المنطقة، وأن هذا المكان هو أكثر مكان اقام فيه الرسول ﷺ.


بيت الرسول ﷺ والسيدة خديجة


مكان الاستقبال في بيت الرسول وخديجة

مدخل غرفة الرسول ﷺ

 

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

أجمل كلمة في الحب.

أحبت أمنا خديجة –رضى الله عنها- النبي ﷺ حبًا شديدًا، حتى قال النبي ﷺ في حديث رواه مسلم:

"إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا"

سمعت يومًا شابًا يقول إن هذه الجملة "إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا" هي أجمل عبارة سمعها عن الحب.

ومادام الحب رزق من الله، فلا يطلب بمعصية الله، وانما يطلب بطاعته.

وقد يكون زوج المرأة قليل المال، ولكنه يحبها، فعليها أن تدرك أن هذا الحب رزق يعدل كل كنوز الدنيا.

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

وفاء الرسول  لزوجته.

كانت السيدة خديجة غنية كثيرة المال، فكان أول شيء فعله الرسول ﷺ بعد زواجه من السيدة خديجة أن استأذنها وأرسل للسيدة حليمة –التي أرضعته- أربعين رأسًا من الضأن ترعاها في ديار قومها وتستغنى بها الى آخر ما قدر لها من العمر.

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

حسن خلق "خديجة" مع حماتها 

وكما أكرمت -رضى الله عنها- "حليمة" كانت السيدة خديجة تكرم كذلك "ثويبة الأسلمية" جارية "أبو لهب" عم الرسول ﷺ، لأنها كانت قد أرضعت الرسول ﷺ فهي إحدى امهات الرسول ﷺ من الرضاعة، وهي حماتها من الرضاعة.

فكان من كمال السيدة خديجة وأدبها وحسن خلقها أنها كانت تكرم "ثويبة" مع أنها جارية عند عمه أبو لهب، بل وحاولت أن تشتريها من أبو لهب لكي تعتقها، ولكنه كان يرفض.

(رسالة لكل زوجة: إذا أردت أن تستقيم حياتك مع زوجك، فعليك أن تحسني معاملة أمه، لو أحسنت الى حماتك فلن ينسي لك زوجك هذا حتى آخر لحظة في حياته، ولو أسئت لها فأيضًا لن ينسي لك زوجك هذه الاساءة طوال حياته)

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

السيدة الكاملة

واستمر زواج الرسول ﷺ مع السيدة "خديجة" خمسة وعشرون عامًا، كانت فيه السيدة خديجة نعم الزوجة، خلقًا وأدبًا ومعرفة لقدر زوجها النبي العظيم ﷺ.

وبعد نزول الرسالة على النبي ﷺ وكانت هي: حصنه الداخلي، وركنه الشديد، والوزير الصادق له، والرفيق الساعي له، تخفف عنه، وتواسيه، وتسعى في قضاء حوائجه.

 خمسة وعشرون عاماً لم يسمع الرسول ﷺ منها كلمة تغضبه، ولم يحدث موقف واحد اختلف فيه الرسول ﷺ مع السيدة خديجة. 

كانت أمنا -رضى الله عنها- سيدة كاملة، يقول الرسول ﷺ في حديث رواه البخاري ومسلم:

"لم يكمل من النساء إلا: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد"

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

حب الرسول لخديجة 

أحب الرسول ﷺ السيدة خديجة حبًا شديدًا، وتعلق بها تعلقًا شديدًا، ومن حب النبي ﷺ للسيدة خديجة أنه لم يتزوج عليها طوال حياتها، صيانة لقلبها من الغيرة، مع أن زواج الرجل من امرأة واحدة أمر نادر في جزيرة العرب في ذلك الوقت.

وكان للسيدة خديجة غلام من زوجها الأول اسمه "هند" وغلام من زوجها الثاني اسمه "هالة" فكان الرسول ﷺ ويحسن معاملتهما، ويهتم بتربيتهما.

وكان "هالة" ربما يدخل على الرسول ﷺ وهو نائم، فيستيقظ الرسول ﷺ ويبتسم له ويضمه الى صدره وهو يقول هالة هالة.

(من منا إذا أيقظه ابنه وليس ابن زوجته يبتسم في وجهه ويضمه الى صدره؟!)

(من كان في بيته ابن لزوجته، ومن كانت في بيتها ابن لزوجها، انظروا كيف تعامل الرسول ﷺ مع أبناء زوجته خديجة)

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

وكانت تأتي "هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ" أُخْتُ السيدة خَدِيجَةَ لزيارة أختها، فاذا طرقت الباب عرفها الرسول ﷺ من طريقة طرقها على الباب، فيرحب الرسول ﷺ بقدومها، ويقول: "اللَّهُمَّ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ"

يعنى: يا رب تكون هالة هي التي تطرق على الباب.

من منا يرحب بأقارب زوجته هكذا؟ ومن الآن ترحب بأقارب زوجها هكذا؟

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

وفاء الرسول العظيم لزوجته.

وبعد وفاة السيدة "خديجة" أتت صحابية اسمها "خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ" وقالت له:

-        ألا تزوج يا رسول الله؟

فدمعت عين الرسول ﷺ وقال:

-        وهل بعد خديجة أحد؟

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

وبعد وفاتها –رضى الله عنها –كان الرسول ﷺ إذا ذبح شاة، كان يحرص على أن يرسل من لحمها الى صاحبات خديجة، ويقول:

-     اذْهَبْ بِهَذَا إلَى فُلَانَةَ.

فتقول السيدة عائشة:

-        من هذه يا رسول الله؟

فيقول ﷺ:

-        كَانَتْ صَدِيقَةً لخَدِيجَةَ.

ثم يقول ﷺ:

-        اذْهَبْ بِهَذَا إلَى فُلَانَةَ.

فتقول السيدة عائشة:

-        من هذه يا رسول الله؟

فيقول ﷺ:

-        إنّ خَدِيجَةَ أَوْصَتْنِي بِهَا.

ثم يقول ﷺ:

-        اذْهَبْ بِهَذَا إلَى فُلَانَةَ.

 

فتقول السيدة عائشة:

-        من هذه يا رسول الله؟

فيقول ﷺ:

-        إِنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ خَدِيجَةً، وإني لأحب حبيبها.

فأسقط في يد عَائِشَةُ وقالت:

-        لَكَأَنّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ امْرَأَةٌ إلّا خَدِيجَةَ.

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

 ولم يتوقف الرسول ﷺ عن ذكر السيدة خديجة وذكر فضلها-رضي الله عنها- حتى قالت السيدة عائشة يومًا:

"ما غرتُ من نساءِ النبي ﷺ إلا من خديجةَ، وإني لم أدركها"

(يعنى أنها -رضى الله عنها- لم تكن تغار من زوجات الرسول ﷺ بقدر غيرتها من خديجة، بالرغم من أنها كانت قد توفيت)

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

 وفي يوم بدر في السنة الثانية من الهجرة، وقع "الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ" زوج السيدة زينب بنت الرسول ﷺ وبنت خديجة في الأسر، وكان لا يزال على الكفر، وأرسلت كل عشيرة الأموال في فداء أسراها، وأرسلت السيدة زينب في فداء زوجها (كانت السيدة زينب على الإسلام، ولكنها كانت مع زوجها في مكة) فأرسلت زينب قلادة (عقد) كانت قد أهدتها اليها أمها السيدة خديجة في يوم زواجها.

ورأي الرسول ﷺ القلادة فعرفها، وأمسكها بين يديه الشريفتين، وتذكر خديجة، فرق لها رقة شديدة، وتأثر تأثرًا شديدًا، وقال لصحابته:

-        إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَتَرُدّوا عَلَيْهَا مَالَهَا، فَافْعَلُوا.

(بالرغم من انه قائد الجيش ورئيس الدولة فانه يستأذن أصحابه في أن يطلقوا سراح زوج ابنته دون أن تؤخَذ منها قلادة زوجته خديجة)

فَقَالُوا جميعًا:

-        نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ.

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

وفي يوم فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة، كانت قريش قد صادرت بيته بعد الهجرة، وأراد الرسول ﷺ أن يبيت، وكانت جميع البيوت ترحب به ﷺ ولكنه ضرب خيمته الى جوار قبر خديجة، وكأن لسان حاله ﷺ يقول: صدقت يا خديجة حين قلت "والله لا يخزيك الله أبدًا"


قبر خديجة في مكة قبل أن تزال القبة

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

وفي يوم فتح مكة جاءت أحدي صديقات خديجة واسمها "جثامة المزنية" فرحب بها الرسول ﷺ ترحيبًا شديدًا، وجلس يتحدث اليها ويقول لها:

-        كَيْفَ حَالُكُمْ؟ كَيْفَ كُنْتُمْ بَعْدَنَا؟

وسألته السيدة عائشة:

-        من هذه يا رسول الله؟

فقال لها ﷺ:

-        هذه صاحبة خديجة.

فقالت عائشة:

-        وفيم كنتم تتحدثون يا رسول الله؟

فابتسم الرسول ﷺ وقال:

-        كنا نتحدث عن ايام خديجة.

(بنفتكر أيام زمان الجميلة، أيام خديجة، فاكر لما حصل كذا، وفاكرة لما حصل كذا)

فغضبت عائشة وقالت:

-        هل كانت إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها؟

فتغير وجه الرسول ﷺ وغضب غضبًا شديدًا وقال:

-        لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنتْ بي إذْ كفرَ الناس، وصدَّقتني إذ كذّبَني الناس، وواستني بمالها إذ حرمنـي الناس، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء.

ورأت السيدة عائشة غضب النبي ﷺ فقالت تعتذر له:

-     استغفر لي يا رسول الله.

فقال لها النبي ﷺ وهو لا يزال في غضبه:

-        استغفري لخديجة حتى أستغفر لك.

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

وفي النهاية

رأينا كيف أحب الرسول ﷺ السيدة خديجة كل هذا الحب برغم أنها توفيت وعمرها خمسة وستون عامًا، أي أن جمالها كان قد ذهب.

وهذه رسالة لكل فتاة أن الذي يهم الرجل في زوجته ليس الجمال ولكن حسن العشرة، لأن جمال الزوجة زائل يومًا لا محالة، أو سيعتاد عليه الرجل، والذي سيبقي هو العشرة بينهما.

وهناك رسالة لكل شاب يبحث عن زوجة، أن أهم معيار لاختيار الزوجة ليس هو الجمال، فالجمال زائل وستعتاد عليه، ولكن أهم معيار هو أخلاق الفتاة وعشرتها.

ورسالة أخري لكل رجل تقف زوجته الى جواره حتى ترتقي معه الى حياة أفضل، ثم عندما يتقدم بها العمر ويذهب جمالها، يبحث عن زوجة أخري أو علاقة أخري، تعلم من نبيك ﷺ وقد بلغت زوجته خمسة وستين سنة، ولم يفكر في أن يتزوج عليها، مع أن هذا كان هو المعتاد في ذلك الوقت.

 

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°