3- الحلقة الثالثة: قصة أصحاب الأخدود.
المزيد
(السِّيرَةُ
النَّبَوِيَّةُ العَطِرَةُ)
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
الجُزْءُ الأَوْلَ:
أحدَاثٌ هَامَة قَبْلَ مَوْلِد الرَسُول ﷺ
**********************************************
الفصل الثالث: ((قصة
أصحاب الأخدود))
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
°°°°°°°°°
المشهد الأول
°°°°°°°°°
تدور أحداث هذه القصة في أوائل القرن الخامس الميلادي، أي قبل بعثة النبي ﷺ بحوالى مائة عام.
وتبدأ القصة برجل من أتباع نبي
الله عيسى –عليه السلام- اسمه "فيميون" الراهب، كان يعيش في الجزيرة
العربية، وكان رجلًا صالحًا، مجتهدًا في العبادة، زاهدًا في الدنيا، وكان يعمل في
مهنة البناء، ولا يأكل الا من عمل يده.
وكان "فيميون" الراهب
مستجاب الدعوة وله كرامات، وكان كلما عُرِّفَ واشتهر بقرية تركها وذهب الى قرية
أخري.
وأثناء سياحته بالجزيرة العربية، وبينما هو في رحلته من قرية الى قرية
أخري، اختطفه مجموعة من الرجال، كما كان الحال في الجزيرة العربية، وباعوه في
منطقة يطلق عليها "نجران" وهي الآن في جنوب الجزيرة العربية، عند حدود
المملكة السعودية مع دولة اليمن
اشتري "فيمون" رجلًا من وجهاء نجران، وكان "فيمون" اذا جاء
الليل قام يصلى، فكان البيت كله يضيء، ورأي سيده هذا فأعجب به وتبعه علي دينه،
وبدأت الديانة المسيحية تنتشر بين أهل نجران، حتى وصل الأمر الى مسامع الملك.
وكانت "نجران" عليها ملك اسمه "أبو نواس" وكان ملكًا
ظالمًا، يدعي الألوهية، ودائمًا الملوك الذين يدعون الإلهية هم أكثر الملوك ظلمًا
وبطشًا وقسوة، مثل النمرود الذي كان في زمن ابراهيم –عليه السلام- ومثل فرعون موسى
وغيرهما.
وبطش الملك بأتباع الراهب من
المؤمنين وقتلهم جميعًا، وهرب "فيمون الراهب" واعتزل في خيمة على أطراف
المدينة
°°°°°°°°°
المشهد الثاني
°°°°°°°°°
تمر سبع سنوات ليبدأ الفصل الثاني من القصة:
كان لهذا الملك ساحر، يستعين به في
أن يصنع أشياء تجعل الناس تصدق أنه اله، فكان مثلًا يسحر أعين الناس فيجعلهم يرون
السحاب في السماء يكتب اسم الملك.
وتقدم العمر بالساحر وخشى أن يندثر
علمه، فطلب من الملك أن يدفع اليه غلامًا يعلمه السحر، فدفع اليه غلامًا عمره
أربعة عشر عامًا، اسمه "عبد الله بن ثامر" وبدأ هذا الغلام يتردد على
الساحر ليعلمه علم السحر.
وكان الغلام في طريقه كل يوم الى
الساحر يمر على "فيمون الراهب" في خيمته، فكان يجلس اليه ويستمع الى
حديثه ويعجب بكلامه.
وكان الغلام يمر على "فيمون
الراهب" في أول النهار قبل أن يذهب الى الساحر، ويمر عليه مرة ثانية في آخر
النهار بعد أن ينتهي يومه مع الساحر، وكان من شدة تعلقه بالراهب وبكلامه، يجلس معه
كثيرًا حتى يتأخر على الساحر، ثم يجلس معه كثيرًا أيضًا وهو في طريق عودته حتى
يتأخر على أهله، فكان الساحر يضربه عندما يتأخر عليه، وكان أهله يضربونه عندما
يتأخر عليهم.
وشكي الغلام للراهب، فقال له
الراهب: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر.
واستمر الغلام على هذا الأمر فترة
من الزمن: وكان لابد له أن يختار أحد طريقين: اما طريق الراهب أو طريق الساحر،
وكان يميل بقلبه وعقله للراهب، ولكن كان الراهب وحيدًا مطاردًا، بينما الساحر يمثل
الجاه والمال والنفوذ والمستقبل الواعد.
وبينما هو في طريقه في أحد الأيام،
فاذا بحيوان مفترس يسد الطريق، فقال الغلام في نفسه: "اليوم أعلم أيهما أفضل: الساحر أم الراهب"
ثم أخذ حجرا وقال: "اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه
الدابة حتى يمضي الناس" ثم رمى الحيوان فقلته، ومضى الناس في طريقهم، فتوجه الغلام
للراهب وأخبره بما حدث، فقال له الراهب:
-
يا بنى، أنت اليوم أفضل مني، وإنك ستبتلى،
فإذا ابتليت فلا تدلّ عليّ.
-
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
ترك
الغلام الساحر ولم يعد يتردد عليه ولزم الراهب، وبدأت تحدث له كرامات عظيمة، فكان
-بأمر الله تعالى- يبريء الأكمه –وهو الذي ولد كفيفًا- ويبريء -بأمر الله تعالى-
الأبرص –وهو مرض جلدي- ويبريء -بأمر الله تعالى-
من جميع الأمراض، حتى انتشر أمره بين الناس، وسمع به أحد جلساء الملك، وكان
ابن عم الملك وصديقه، وكان هذا الرجل قد فقد بصره، فجمع هدايا كثيرة وتوجه الى
الغلام، وقال له:
-
أعطيك كل
هذه الهدايا ان شفيتني.
فقال له الغلام:
- أنا لا أشفي أحد، إنما يشفي الله
تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك.
فآمن جليس الملك، ودعا له الغلام، فشفاه الله تعالى
.
ثم ذهب جليس الملك في اليوم التالى،
وقعد مع الملك كما كان يقعد قبل أن يفقد بصره، فقال له الملك:
- من ردّ عليك بصرك؟
فأجاب الجليس بثقة المؤمن:
- ربّي.
فغضب الملك وقال:
- ولك ربّ غيري؟
فأجاب المؤمن دون تردد:
- ربّي وربّك الله.
فثار الملك، وأمر بتعذيبه. ولم يزالوا يعذّبونه حتى دلّ على الغلام، فأمر
الملك بإحضار الغلام، وكان الملك يعرفه أنه تلميذ الساحر، ثم قال له مخاطبا:
- يا بني، لقد بلغت من السحر
مبلغا عظيما، حتى أصبحت تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل.
فقال الغلام:
- إني لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله
تعالى.
فأمر الملك بتعذيبه، فعذّبوه حتى دلّ على الراهب، فأُحضر الراهب وقيل له: ارجع عن دينك،
فأبى الراهب ذلك وجيء بمنشار، ووضع على مفرق رأسه، ثم نُشِرَ حتى مات ووقع نصفين.
ثم أحضر جليس الملك، وقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فَفُعِلَ به كما فُعِلَ بالراهب.
ثم جِيء بالغلام، ولم يأمر الملك بقتل الغلام كما فعل مع الراهب
وجليسه، لأن الراهب وجليسه لم يكونا معروفان للناس، أما الغلام فقد كان معروفًا،
وكان الملك يريد أن يعود عن دينه أمام شعبه، خوفًا من افتتان الشعب به.
فأمر الملك بأخذ الغلام لقمة جبل، وتخييره
هناك، فإما أن يترك دينه أو أن يطرحوه من قمة الجبل.
فأخذ الجنود الغلام، وصعدوا به الجبل، فدعا الفتى ربه وقال: "اللهم
اكفنيهم بما شئت"
فاهتزّ الجبل وسقط الجنود، ورجع الغلام يمشي إلى الملك، فقال الملك في
ذهول:
- أين من كان معك؟
فأجاب:
- كفانيهم الله تعالى.
فأمر الملك جنوده بحمل الغلام في سفينة، والذهاب به الى وسط البحر، ثم تخييره هناك بالرجوع
عن دينه أو إلقاءه.
فذهبوا به، فدعى الغلام
الله: "اللهم اكفنيهم بما شئت"
فانقلبت بهم السفينة
وغرق من كان عليها إلا الغلام، ثم رجع يمشي إلى الملك.
فبهت الملك وصرخ في
وجهه:
- أين من كان معك؟
فأجاب الغلام في هدوء:
- كفانيهم الله تعالى.
- °°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
كل هذا والشعب يراقب، ولكن لا أحد يريد أن يؤمن بالله تعالى وحده، ويترك
عبادة الملك، من شدة خوفهم من بطش الملك.
فلما رأي الفتى ذلك، قرر أن يضحى بحياته في سبيل أن يؤمن شعبه، فقال
للملك:
- إنك لن تستطيع قتلي حتى
تفعل ما آمرك به
فقال الملك:
- ما هو؟
قال الغلام:
-
تجْمَعُ النَّاس في صَعيدٍ واحدٍ،
وتصلُبُني عَلَى جذْعٍ، ثُمَّ خُذ سهْماً مِنْ كنَانتِي، ثُمَّ ضعِ السَّهْمِ في
كَبدِ القَوْسِ ثُمَّ قُل بأعلى صوتك: بسْمِ اللَّهِ ربِّ الغُلاَمِ، ثُمَّ ارمِنِي، فإنَّكَ
إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتنِي.
فأمر الملك فجُمَع النَّاس في مكان
واحِدٍ، وصلب الغلام عَلَى جذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سهْماً منْ كنَانَتِهِ، ثُمَّ وضَعَ السَّهمَ
في كبِدِ القَوْسِ، ثُمَّ قَالَ بأعلى صوته: "بِسْم اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ"
ثُمَّ رمَاهُ فَوقَعَ السَّهمُ في
صُدْغِهِ. (الصدغ هو الذي ما بين العين والأذن)
فَوضَعَ الغلام يدَهُ على صُدْغِهِ ومَاتَ .
فصرخ النَّاسُ : آمَنَّا بِرَبِّ
الغُلاَمِ
وكان عدد الذين آمنوا في ذلك المشهد عشرون
ألف.
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
وجن جنون الملك، فأمر بحفر
الأخاديد، والأخدود في اللغة هو الحفرة المستطيلة، أي "خندق"
حفرت الأخاديد أو الخنادق وأمر أن تشعل فيها النيران، ثم أمر جنوده بتخيير
المؤمنين: اما الرجوع عن الايمان بالله تعالى وحده أو الإلقاء في النار، فاختار كل
العشرون ألف الإلقاء في النار، ورفضوا العودة الى الكفر وعبادة هذا الملك الظالم
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
وسجل القرآن العظيم هذه القصة المروعة
في سورة البروج
قال تعالى (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ) قسم بالسماء، وبالكون كله وما فيه من نجوم عظيمة وكواكب وأجرام.
(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) قسم
باليوم الموعود وهو "يوم القيامة" (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)
ثم يأتي جواب القسم ((قُتِلَ
أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ)) و " قُتِلَ" أشد من اللعن وأشد من الهلاك.
(النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ
عَلَيْهَا قُعُودٌ) أي قعود على حواف الأخاديد مستمتعون بمشاهدة تعذيب وحرق
المؤمنين.
(وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ
شُهُود) أي شهود على أنفسهم، لأنهم هم الذين سيشهدون على أنفسهم يوم القيامة.
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا
أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِالْحَمِيد)
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
الله تعالى شَهِيدٌ على كل شيء،
يري كل شيء.
ولاحظ كم مرة تكررت في السورة لفظ
الشهادة
°°°°°°°°°
المشهد الثالث
°°°°°°°°°
لم ينج من
هذه المذبحة البشعة من المؤمنين الا رجل واحد فقط، استطاع أن يهرب وينجو بنفسه،
واتجه الى روما مباشرة، وقابل القيصر وقص عليه كل ما حدث.
وكان قيصر
وروما على النصرانية، فغضب القيصر غضبًا شديدًا، ولكن كان يعلم أنه لا يستطيع أن
يحرك جيشًا الى جنوب الجزيرة العربية، والملك الظالم "ذو نواس" كان يعلم
هذا أيضًا، ولذلك تجرأ على ما فعله بالمؤمنين من النصاري.
ولكن كانت
الحبشة في ذلك الوقت على النصرانية وتابعة للإمبراطورية الرومانية، فأرسل قيصر مع
هذا الرجل رسالة الى النجاشي ملك الحبشة -والنجاشي هو لقب كل من يحكم الحبشة، مثل
فرعون لقب من يحكم مصر، وقيصر لقب من يحكم الدولة الرومانية، وكسري لقب من يحكم
الإمبراطورية الفارسية-
وأمر قيصر
"النجاشي" أن يتحرك الى أرض نجران، وينتقم لما حدث للنصاري هناك.
وتحرك
الجيش بالفعل تحت قيادة رجل اسمه "أرياض" وكان من قادة الجيش رجل طموح
اسمه "أبرهة" الذي سيحاول بعد ذلك هدم الكعبة.
وحدث
القتال بين جيش الحبشة تحت قيادة "أرياض" وجيش نجران تحت قيادة
"أبو نواس" وانهزم "أبو نواس" وطارده جيش الحبشة فدخل بفرسه
في البحر ومات منتحرًا غريقًا.
.
وأصبحت
منطقة نجران واليمن تابعة للحبشة، والتى هي تابعة بدورها للإمبراطورية الرومانية،
وأصبح "أرياط" هو حاكم اليمن أو والى النجاشي في اليمن، وكان ذلك في عام
525 م أي قبل البعثة بحوالى 100 سنة.
وظل
"أرياط" حاكمًا على اليمن حتى قتله بعد ذلك "أبرهة الأشرم"
وهو كما قلنا كان أحد قادة الجيش، ويصبح "أبرهة الأشرم" حاكم اليمن حتى
حاول بعد ذلك أن يهدم الكعبة في قصة أخري .
المهم أن
الديانة المسيحية انتشرت في اليمن، وأصبحت هي ديانة هذه المنطقة، وهي منطقة نجران
واليمن
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
انتهت
القصة، وانتصر الغلام والراهب، وانهزم الملك الظالم وجنوده، وكل الذين رفضوا
الإيمان.
هذه
القصة برغم ما فيها من عبر عظيمة جدًا ودروس، ولكن نحن نذكرها ونحن نتحدث عن
السيرة لأنها أولًا من أهم الأحداث قبل بعثة النبي ﷺ وثانيًا حتى نعرف كيف دخلت
النصرانية الجزيرة العربية، ونحن نتحدث عن شكل الجزيرة وقت بعثة النبي ﷺ ولأنه سيأتي بعد ذلك وفد من
نصاري نجران لمقابلة ومناقشة الرسول ﷺ
في
المدينة بعد الهجرة، وسيكون لها فصل خاص ان شاء الله تعالى.
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°