Untitled Document

عدد المشاهدات : 2220

الحَلَقَة (33) مِن "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" تدبر الآية (35) من سورة البقرة: وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ

   تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الثالثة والثلاثون
❇        
تدبر الآية (35) من سورة البقرة
❇        
(وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)
❇        
تحدثنا عن قصة الخلق وقلنا أن الله تعالى قال لِلْمَلَائِكَةِ (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي خلقًا يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فقالت الملائكة على سبيل الإستفهام عن الحكمة (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) يعنى اذا كان الهدف من خلق هذا المخلوق الجديد هو العبادة، فنحن نعبدك ونسبح بحمدك وَنُقَدِّسُ لَكَ، فقال لهم الله تعالى (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) يعنى هناك حكمة في خلق هؤلاء على هذه الحالة أنتم لا تعلمونها
وخلق الله تعالى آدم من تراب خلط بالماء فأصبح طينًا، ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى أَنْتَنَ فَصَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، ثُمَّ تُرِكَ حتى جف الطين فاصبح صلصالًا كالفخار، ثم نفخ الله تعالى الروح في آدم
وبعد أن نفخ الله تعالى الروح في آدم، أمر الملائكة بالسجود لآدم تحية له وتكريمًا واجلالًا، ولكن ابليس -وكان من الجن- امتنع عن السجود لآدم، وقال أنا خير منه، لأننى ناري وهذا طينى، فطرده الله تعالى من الجنة، جزاء معصيته وكفره
وبعد ذلك أقبل الله تعالى على آدم وعلمه الأسماء، ثم عرض هذه الأسماء على الملائكة ، وقال (َأنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين)  يعنى إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين أن الخَلِيفَةً ان كان من غيركم سيُفْسِدُ فِي الأرض وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، فأجاب الملائكة (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم) فبين الله تعالى للملائكة أن هذا المخلوق الجديد يفضل الملائكة بالعلم، وهو أمر ضروري للمهمة التى اختارها له كخليفة، وهي مهمة اعمار الأرض   
 

❇        
ولكن قبل أن يبدأ آدم في مباشرة مهمته في الوجود، لم يشأ الله تعالى -رحمة بآدم- أن يجعله يباشر مهمته في الوجود بكلام نظري
لأن هناك فرق بين الكلام النظري والتجربة التطبيقية، فقد تفهم الشيء نظريا ولكن يصعب عليك تطبيقه
فكانت ارادة الله تعالى أن يُدخل آدم الجنة، وأن تكون اقامته في الجنة تدريبًا عمليًا له، قبل أن يبدأ في مزاولة مهمته على الأرض
اقامة آدم في الجنة تدريبًا عمليًا له
❇        
يقول تعالى (وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)
سياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة، فقال بعض أهل العلم أن آدم ألقى عليه النوم، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما، ثم خلق الله من ضلعه زوجته فسواها امرأة، فلما استيقظ آدم رآها إلى جنبه فقال "لحمي ودمي وزوجتي" ثم خاطبه الله تعالى وقال (يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) 
وقال بعض أهل العلم أن خلق حواء كان بعد دخول آدم الجنة، فقالوا أن آدم بعد أن أسكن الجنة، كان يمشى فيها وحيدًا، ثم ألقى الله عليه النوم، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما، ثم خلق الله من ضلعه زوجته فسواها امرأة، فلما استيقظ آدم رآها جالسة عند رأسه، فسألها ما أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت ؟ قالت: لتسكن إلي، قالت له الملائكة: ما اسمها يا آدم ؟ قال: حواء، قالوا: ولم حواء؟ قال: إنها خلقت من شيء حي. 
وسواء كانت حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة، أو بعد دخول آدم الجنة، فهذا لا يغير من القصة في شيء
❇        
وليس معنى أن حواء خلقت من ضلع آدم أن عدد أضلاع آدم قد نقصت، بدليل أن عدد أضلاع الرجل تشريحيًا هي نفس عدد أضلاع المرأة، ومن الممكن أن يخلق شيء من شيء، دون أن يَنْقص الشيء المخلوق منه، كما يخلق الطفل مثلًا من الأب والأم، ولا ينقص هذا من الأب والأم، أو كما يقومون الآن بالإستنساخ
❇        
والحديث المشهور أن المرأة خلقت من ضلع أعوض لا يعيب المرأة، لأن اعوجاج هذا الضلع مناسب لوظيفته، فلو كان هذا الضلع مستقيما لما أدي وظيفته، وكذلك الأعوجاج الذي في المرأة، وهو كناية على تغلب جانب العاطفة عندها على جانب العقل مناسب لوظيفتها كأم وكزوجة 
أما الذي يصر على تكرار هذا الحديث ليعيب على المرأة نقول له: أن الضلع الأعوج أصلًا هو ضلع الرجل
❇        
وقال بعض أهل العلم أن حواء خلقت وآدم نائم حتى لا يشعر بالألم، لأنه لو شعر بالألم لكرهها
وخلقت حواء من الضلع الأيسر الذي يحمي القلب، لأن الله تعالى جعل وظيفتها الأساسية مع القلوب، فستكون الأم الحنون، والزوجة الوفية، والأخت الرحيمة وهكذا
بينما خلق آدم من تراب لأن عمله سيكون مع الأرض، سيكون المزارع والبناء والحداد والنجار، وهكذا
❇        
وقال البعض أن حواء لم تخلق من ضلع آدم، وانما خلقها الله تعالى كما خلق آدم، وكما خلق الزوجين في كل المخلوقات
بل ذهب البعض بأن حواء هي التى خلقت أولًا ثم خلق منها آدم بعد ذلك، وجاء بادلة على ذلك
وكل فريق جاء بأدلة، وكل فريق دافع عن رأيه ورد على أدلة الفريق الآخر، ونحن لن نخوض في هذا الأمر، ولا حتى أريد أن أذكر الرأي الذي أرجحه
لأن سواء كانت حواء خلقت من ضلع آدم، أو خلقها الله تعالى كما خلق آدم، فهذا أمر لايفيد في شيء، ولا يرتب أفضلية لأحد على أحد
والمعيار الذي وضعه الله تعالى لأفضلية أي أحد على أحد هو قول الله تعالى (إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)
❇        
واختلف العلماء في الجنة التى سكنها آدم وحواء، هل هي جنة الخلد التى في السماء، أم جنة في الأرض، أي بستان كثير الأشجار
فقال البعض أنها جنة الخلد التى في السماء، لأن الله تعالى عرفها بالألف واللام، كما نقول "اللهم انى أسالك الجنة" فالمفهوم أنها جنة الخلد
ولأنه ورد في الحديث الذي رواه مسلم أن مُوسَى التقي آدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أي الْتَقَتْ أَرْوَاحُهُمَا فِي السَّمَاءِ، قَالَ لَهُ مُوسَى : أَنْتَ أَشْقَيْتَ ذُرِّيَّتَكَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، فقال له آدم 
أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً
وقال البعض أن هذه الجنة في الأرض، وقد أطلق القرآن على البستان اسم الجنة في اكثر من موضع، كما في قول الله تعالى في سورة الكهف (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) وقول الله (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ) وقول الله (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ)  ولأن ابليس دخل هذه الجنة ووسوس لآدم وحواء، والجنة لا يدخلها ابليس، ولأن آدم عصى في الجنة، والجنة ليس فيها معصية، وأخرج الله تعالى آدم من الجنة، والجنة فيها خلود
وأغلب العلماء على أنها جنة الخلد التى في السماء
❇        
(وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا)
وفي قراءة (رَغْدًا) بسكون الغين
الرغد هو سَعَةُ الْمَعِيشَةِ بدون مشقة
كما نقول فلان يعيش حياة رغدة، يعنى يعيش سعيد، ومرتاح في حياته
فمعنى (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا) أي طعامًا كثيرًا وبلا تعب أو عناء
ولذلك فليس هناك أهمية لخلاف العلماء حول الجنة: هل هي جنة الخلد أم جنة في الأرض، المهم أنها مكان فيه كل مقومات الحياة بلا معالجة وبلا تعب ولا مشقة
 

(وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا)
❇        
(حَيْثُ شِئْتُمَا) يعنى كلا من أي شجرة من أشجار الجنة، وكلمة (حَيْثُ شِئْتُمَا)  تدل على أن هناك ألوانًا متعددة من الأشجار والطعام 
❇        
ثم قال تعالى (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)  
أي أمره الله تعالى ألا يأكل من ثمار شجرة واحدة من ثمار الجنة، وهي ثمرة التين أو العنب أو القمح، أو غير هذا، وليس هناك تحديد لنوع الشجرة لا في كتاب ولا سنة صحيحة
قال تعالى (وَلَا تَقْرَبَا) ولم يقل و(لاتأكلا) وهذا يفيد ألا نقترب من المحرمات
(وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)
❇        
(فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه 
وأبشع أنواع الظلم هو أن تظلم نفسك بالمعصية
لأن المفروض أن تنفع نفسك، ولكنك بدلًا من أن تنفعها تضرها بالمعصية
اذن المقصود بقوله (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي من الظَّالِمِينَ لأنفسهم، لأنه لا أحد يستطيع أن يظلم ربه، ولكن اذا ظلمت فأنت تظلم نفسك