Untitled Document

عدد المشاهدات : 3160

الحلقة (22) من (تدبر القرآن العظيم) تدبر الآيتين (17) و (18) من سورة البقرة- قول الله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْم
 تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثانية والعشرون
❇        
تدبر الآيتين (17) و(18) من سورة البقرة
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)

❇        

تحدث الله تعالى في الآية السابقة عن المنافقين، وقال أنهم اشتروا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وقلنا أن الشراء أخذ شيء وترك شيء آخر، فمعنى أنهم اشتروا الضلالة بالهدي، أنهم أخذوا الضلالة وتركوا الهدي، ومعنى هذا أن الهدي كان بين أيديهم
وقلنا أن هذا الهدي هو الهداية الفطرية، وهداية العقل، وهداية القرآن العظيم، وكذلك هداية الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
في هذه الآية يشبههم الله تعالى فِي اشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، واختيارهم طريق الباطل عن طريق الحق بهذا المثل البليغ، فيقول تعالى:
(مَثَلُهُمْ) أي مثل هؤلاء المنافقين
(كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) أي أضاء نارًا في صحراء في ليلة مظلمة، (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) ورأي كل شيء حوله، ورأي ما ينفعه، وما ينبغي أن يتقيه (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) طفئت هذه النار (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ) عادوا الى ما كانوا فيه من ظلام وحيرة وتخبط
فشبه الله تعالى المنافقين بمن أضاء نارًا في صحراء في ليلة مظلمة، ورأي كل شيء حوله، ورأي ما ينفعه وما ينبغي أن يتقيه، ثم طفئت النار وعاد الى ما كان فيه من ظلام وحيرة وتخبط
اذن التشبيه في غاية الدقة، لأن المنافق كان بين يديه نور، وهو نور الإيمان، اذ عرض عليه الإيمان، ورأي بوضوح طريق الحق وطريق الباطل، ولكنه اختار طريق الباطل ومشى فيه، فأطفأ هذا النور، وعاد الى ما كان فيه من ظلام

❇        

ولكن نلاحظ هنا أن "مثلهم" جمع و"استوقد" مفرد و"بنورهم" و"تركهم" "يبصرون" جمع، فكيف يكون جمع ثم مفرد ثم جمع 
نقول ) مَثَلُهُمْ) أي مثل هؤلاء المنافقين
(كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) والذي اسْتَوْقَدَ هذه النار هو الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو النور الذي يهتدي به الناس
وهذا مثل قوله تعالى في سورةالمائدة (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) والنور في هذه الآية هو الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) وظهر لهم طريق الحق وطريق الباطل، أصروا على الكفر، ونافقوا، فعاقبهم الله تعالى بأن (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ)

❇        

هناك تفسير آخر:
مادة الألف والسين والتاء تأتي بمعنى الطلب، فحين نقول استغاث يعنى طلب الغوث، واستطعم يعنى طلب الطعام، واستسقي يعنى طلب الماء، واستجار يعنى طلب الجيرة، واستخار طلب الخير
فكلمة استوقد يعنى طلب ايقاد النار، أو أنه عالج ايقاد النار بنفسه، وذلك  أن هؤلاء المنافقين هم الذين طلبوا الإيمان، لأنهم كانوا يسمعون من اليهود أن زمن نبي جديد قد أتي، فقرروا أن يؤمنوا به، فلما جائهم هذا النبي كفروا به
فمثلهم (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) هم الذين طلبوا الهداية (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) يعنى جائهم هذا النور، أصروا على الكفر، ونافقوا، فعاقبهم الله تعالى بأن (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ) 

❇        

هناك بعض الألفاظ ذات الدلالة في هذه الآية
قوله تعالى (مَثَلُهُمْ) الْمُتَمَاثِلَانِ : الْمُتَشَابِهَانِ
والمثل يستعمل لأنه أبلغ في توصيل المطلوب للسامع
وقد ضرب الله تعالى في القرآن أربعون مثلًا 
سورة البقرة وحدها فيها تسعة أمثال، وهي أكثر السور فيها أمثال في القرآن
وضرب الله تعالى للأمثال يدل على رحمته تعالى، ورفقه بعباده، ويعنى حرصه تعالى على هداية البشر، فعندما يضرب المدرس الأمثال للتلميذ فانه يعنى حرص هذا المدرس على أن يفهم التلميذ الدرس، وكذلك عندما يضرب الله تعالى الأمثال للناس في القرآن، فهو دليل على حرصه تعالى على هداية الناس

❇        

 (مَثَلُهُمْ) يعنى مثل هؤلاء المنافقين 
(كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) كلمة "النار" جاءت من النور، والنار توقد لأغرض متعددة، فقد توقد للتدفئة، وقد توقد للطهي، وقد توقد لإخافة حيوان مفترس مثلًا، وقد توقد للإضاءة، فجاءت الآية التالية لتوضح سبب ايقاد النار، فقال تعالى  (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) اذن استيقاد النار هنا كان بغرض الإضاءة

❇        

 (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)
ذَهَبَ: الذَّهَابِ ، وَهُوَ زَوَالُ الشَّيْءِ . 
هنا نلاحظ دقة التعبير القرآني، فالله تعالى قال (ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ) ولم يقل: ذهب الله بضوئهم
ما الفرق بين الضياء والنور ؟ النور معروف، والضياء هو فرط الإنارة، ولذلك فالضوء أقوي من النور
ولذلك يقول تعالى (هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً)
فسمي تعالى ضوء الشمس بالضياء، لأن ضوء الشمس قوي، والشمس ذاتية الإضاءة، بينما سمي نور القمر بالنور، لأن نور القمر خافت، وهو يستقبل الضوء ويعكس النور 
وقبل أن تشرق الشمس نجد في الكون نورًا، ولذلك نقول في ذلك الوقت "الدنيا نورت" حتى تسطع الشمس، فنقول "الشمس طلعت" 
فلو قال تعالى ذهب الله بضوئهم، فربما يكون قد أبقي لهم نور، ولكن ذهب الله بنورهم يعنى لم يبق لهم ضوءًا ولا نورًا

❇        

 (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) وهنا دقة التعبير القرآني، أن الذي ذهب من النار هو نورها فقط بينما بقيت حرارتها
لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء بشيرًا ونذيرًا، فاذا لم تقبل الهدي فسيكون العذاب

❇        

 (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ) وظلمات جمع ظلمة، وذلك للدلالة على شدة الظلمة
وذلك كما وصف تعالى الظلام الشديد في قيعان البحار فقال (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)
(لَا يُبْصِرُونَ) دليل آخر على شدة الظلمة

❇        

 (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)
لما ذكر الله تعالى أن المنافقين في ظلمات وأنهم لَا يُبْصِرُونَ، قد يحتمل الأمر أن يهتدي الى طريقه بأي وسيلة أخري من وسائل الإدراك
فقد يتحدث اليه أحد ويرشده الى الطريق، وقد يصيح المنافق ويستغيث حتى يسمعه الناس
فيذكر الله تعالى أنهم فاقدين لكل وسائل الإتصال بالعالم، فيقول تعالى أنهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) وبالتالي فليس هناك احتمال لهدايتهم مرة أخري وعودتهم الى النور

❇        

وَالصَّمَمُ عند الْعَرَبِ : الِانْسِدَادُ، كانت العرب تقول: قَنَاةٌ صَمَّاءُ إِذَا كانت مسدودة وغير مُجَوَّفَةً، فأطلق الأصم على الذي لا يسمع، كأن أذنه مسدودة
وَالْأَبْكَمُ : الَّذِي لَا يَنْطِقُ وَلَا يَفْهَمُ، فان كان يفهم ولا ينطق فهو أَخْرَسُ 
والإنسان اذا كان أصم فلابد أن يكون أبكم، لأنه اذا كان أصم فهو لن يفهم ولن يتعلم الكلام 
والعمى هو ذهاب البصر
فمعنى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) صُمٌّ: عن الإستماع الى الحق، بُكْمٌ: لا يتكلمون كلمة خير واحدة، عُمْيٌ: لا يرون الحق مع وضوحه، ولا يبصرون آيات الله في كونه
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ فِي وَصْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلَاةَ آخِرِ الزَّمَانِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ" وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ مُلُوكَ الْأَرْضِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا" 
فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ: يعنى لا يرجعون الى الحق

❇        

لماذا وصفهم الله تعالى بالعمي، وقد ذكر من قبل في الآية السابقة أنهم (لَا يُبْصِرُونَ)
لأن عدم الإبصار كان بسبب الظلام، فلو جاء نور فهذا يعنى أنهم سيبصرون، فجاء وصفهم بالعمي ليؤكد أنه حتى لو جاء نور فلن يبصروا، فليس هناك أدني احتمال لهدايتهم 

❇        

في هذه الآية قال تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)
وفي الآية 171 من سورة البقرة، يقول تعالى 
(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)
في الآية الأولى قال تعالى (لا يَرْجِعُونَ) لأنه –كما قلنا- لا أمل في هدايتهم مرة أخري
وفي الآية الثانية، يشبه الله –تعالى- الكفار بالدواب السارحة في المراعي، فهي تسمع صوت الراعي وهو ينعق بها، وهي لا تفهم قوله، ولذلك ناسبها أن يقول
تعالى (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)  صدق الله العظيم
 
 

*********************************

لمطالعة بقية الفصول- اضغط هنا

لمشاهدة الحلقات فيديو- اضغط هنا

 *********************************