Untitled Document

عدد المشاهدات : 5974

الفصل الثاني والثلاثون بعد المائة: غدر قبيلتى "عضل" والقارة

  أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة

الجُزْءُ العاشر: الأحداث من "أحد" الى "الأحزاب"
الفصل الثاني والثلاثون بعد المائة
*********************************
غدر قبيلتى "عَضَل" وَ"الْقَارَةُ"
*********************************

*********************************
تداعيات "أحد"
تحدثنا من قبل عن تداعيات "احد" وقلنا أن أبرز آثار "أحد" السلبية، هو أن "أحد" هزت كثيرًا من هيبة المسلمين في الجزيرة، وأصبح موقف المسلمين بعد "أحد" في غاية الصعوبة، لأن "بدر" جاءت ولفتت أنظار الجزيرة العربية كلها الى المسلمين كقوة اقليمية جديدة صاعدة، ثم جاءت "أحد" وأضاعت هيبة المسلمين، بينما ظلت أنظار الجزيرة مركزة على المسلمين في نفس الوقت
وقلنا من آثار اهتزاز هيبة المسلمين بعد "أحد" أن بعض العرب من قبيلة "بنى أسد" استعدت للإغارة على المدينة، فلم يمهلهم الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وانما أرسل اليهم سرية قوامها مائة وخمسون من الصحابة، وجعل عليهم أميرًا "أبو سلمة" فلما انتهوا اليهم تفرقوا، وسميت هذه السرية "سرية أبو سلمة"
ومن آثار اهتزاز هيبة المسلمين بعد "أحد" كذلك، أن فارسًا مغامرًا هو "خالد بن سفيان الهذلي" بدأ يكون جيش لغزو المدينة، فأرسل اليه الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "عبد الله بن أنيس" فقتله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قصة غدر "عَضَل" وَ"الْقَارَةُ"
واستمرارًا لمسلسل استغلال اهتزاز هيبة المسلمين في الجزيرة، كان غدر قبيلتى  "عَضَل" وَ"الْقَارَةُ" والذي عرفت بمأساة "الرجيع"
سعي نفر من مكة الى رجال من "عَضَل" وَ"الْقَارَةُ" واتفقوا معهم على أن يعطوا لهم مبلغًا من المال مقابل أن يقدموا على الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينة، ويظهروا الإسلام، ويطلبون من الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يرسل معهم من يفقههم في الدين، ثم يأسروهم ويسلموهم اليهم
وقيل أن من سعي لذلك هو قبيلة "هذيل" انتقامًا لمقتل فارسهم القوي "خالد بن سفيان الهذلي" على يد "عبد الله بن أنيس" 
وقد اختارت مكة، أو اختارت قبيلة "هذيل" قبيلتى "عضل" و"القارة" لأنهما من القبائل المتحالفة مع المسلمين، ولذلك فلن يشك الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أنهما يضمران له الغدر
وبالفعل جاء الى المدينة رهط من قبيلتى "عضل" و"القارة" وقالوا: 
- إن فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك، يفقهونا، ويقرئونا القرآن، ويعلمونا شرائع الإسلام
فاستجاب لهم الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأرسل معهم عشرة من أصحابه، وجعل عليهم أميرًا "عاصم بن ثابت" وكان من بينهم الصحابي الشاب "مرثد بن أبي مرثد" الذي تحدثنا عنه في الفصل السابق، وكان ذلك في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة
وفي الطريق وعندما أصبحوا قريبًا من قبيلة "هذيل" وعند بئر يقال له "الرجيع" خرج اليهم قريب من مائتي مقاتل من هذيل، فأخذ الصحابة سيوفهم وأخذوا يقاتلوهم حتى أحاطوا بهم في تل مرتفع

وفي الطريق خرج اليهم قريب من مائتي مقاتل
وحاولوا أن يغروهم بالإستسلام، ووعدوهم بعدم قتلهم، ولكن قائد السرية "عاصـم بن ثابت" رفض أن ينزل في ذمة كافر، وقال "إني نذرت ألا أقبل جوار مشرك أبدًا" وأخذ هو وأصحابه يرمونهم بالسهام، وأخذ المعتدين من "هذيل" يرمونهم بالسهام، ويرمونهم بالحجارة، بدأ يسقط من المسلمين قتلي، وسقط بعض القتلي من الجانب الآخر، وفنيت سهام المسلمين، فأخذوا يقاتلونهم برماحهم وسيوفهم، حتى تكسرت رماح المسلمين، وكسر "عاصم بن ثابت" غمد سيفه، كناية على أنه سيقاتل حتى الموت وقال:
- اللهم حميت دينك أول نهاري، فاحم لى لحمي آخره
وأخذ يقاتل حتى قتل، ولم يبق الا ثلاثة فقط، وهم:
خُبَيب بن الدَّثِنَّةِ - زيد بن الدَّثِنَّةِ - عبد الله بن طارق
فأخذوا يساوموا هؤلاء الثلاثة مرة أخري على الاستسلام، ووعدوهم بعدم قتلهم، فوافقوا على ذلك، ولكنهم بمجرد أن استسلموا اليهم ربطوهم بأوتار قسيهم، فقال عبد الله بن طارق: 
- هذا أول الغذر
ورفض أن يسير معهم، وأخذ يقاومهم وهم يجرجروه، فلما أجهدهم قتلوه، ولم يبق الا خُبَيب بن الدَّثِنَّةِ، وزيد بن الدَّثِنَّةِ

غدر  "عَضَل" وَ"الْقَارَةُ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كرامة "عاصم بن ثابت"
حاولوا بعد ذلك أن يقطعوا رأس "عاصم بن ثابت" لأن هناك امرأة في قريش اسمها "سلافة بنت سعد" قد قتل زوجها وأربعة من أبنائها في بدر، وكان "عاصم بن ثابت" قد قتل منهم اثنين، فجعلت لمن يأتي لها برأس "عاصم بن ثابت" مائة من الإبل، ونذرت أن تشرب في جمجمة رأسه الخمر
وكان "عاصم بن ثابت" يعلم ذلك، ولذلك كان دعائه وهو يقاتل: اللهم حميت دينك أول نهاري، فاحم لى لحمي آخره
فلما أقبلوا على جثة "عاصم بن ثابت" يريدون قطع رأسه ليذهبوا بها الى "سلافة بنت سعد" ليأخذوا المائة ناقة، أرسل الله تعالى عدد كبير من الدبابير فحمت جسده، فلم يقترب منه أحد الا لدغته في وجهه، فقالوا: 
- دعوه الى الليل، فاذا جاء الليل ذهب عنه الدبر
فلما جاء الليل بعث الله تعالى سيلًا حمل جسده، فلم يتمكنوا منه، ولم يكن في السماء سحابة واحدة، ولم يعرف قبره –رضى الله عنه- حتى الآن، وهذا من كرامات الصحابة –رضى الله عنهم-

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بيع "خُبَيب" و"زيد" الى قريش
كما قلنا لم يبق من الصحابة العشرة الذين أرسلهم الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الا اثنين فقط، وهما الأخوين: خُبَيب بن الدَّثِنَّةِ، وزيد بن الدَّثِنَّةِ، فانطلقوا بهما الى قريش، وباعوا "خُبَيب بن الدَّثِنَّةِ" الى بنو "الحارث بن عامر" لأن  "خُبَيب" هو الذي قتل أبوهم "الحارث بن عامر" في بدر
وباعوا "زيد بن الدَّثِنَّةِ" الى "صفوان بن أمية" ليقتله انتقامًا لمقتل أبيه "أمية بن خلف" في بدر كذلك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كرامات "خُبَيب بن الدَّثِنَّةِ" واستشهاده
أخذ بنو الحارث "خُبَيب بن الدَّثِنَّةِ" وحبسوه عندهم حتى تنقضى الأشهر الحرم، وقبل موته طلب "خُبَيب" من أحد بنات الحارث موسًا حتى يستحد به، أي يحلق شهر العانة، فأرسلت بالموس طفل لها صغير، ثم قالت: 
- ماذا صنعت، أصاب والله الرجل ثأره بقتل هذا الغلام
ثم جائت اليه مسرعة، فوجدت الغلام جالسًا على فخذ "خُبَيب" وفي يده الموس، فلما رآها "خُبَيب" فزعة قال لها:  
- أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى
فانظر الى أخلاق صحابة الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكيف أنهم لا يغدرون حتى بمن غدر بهم

فأرسلت بالموس طفل لها صغير

أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وكانوا يرونه يأكل من العنب ولم يكن بمكة كلها عنب، تقول أحد بنات الحارث أسلمت بعد ذلك:
- ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب كأنه رأس رجل، وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد, وما كان إلا رزقًا رزقه الله
فكانت هذه كرامة لخبيب، وهذه صورة ثانية من كرامات الصالحين، التى أجراها الله تعالى للصحابة، وانظر كيف يعظم الصحابة سنة الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبرغم أن "خُبَيب" في الأسر، ويعلم أنه سيقتل بين عشية وضحاها، فهو حريصًا على سنة الاستحداد، ونحن نقول هذا لمن يستهين بسنة الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويقول لا ينبغي أن ننشغل بهذه "القشور" في تلك الظروف التى تمر بها الأمة، وأن الناس وصلت الى القمر، وأنتم تتحدثون عن اعفاء اللحية، فنقول لهؤلاء ليس هناك أي تعارض بين تعظيم السنة، وبين الأخذ بأسباب التقدم
وأخيرًا خرجوا به من الحرم الى التنعيم ليقتلوه، فقال لهم:
- دعوني أصلى ركعتين
ثم انصرف من صلاته وقال لهم:
- لولا أن تروا لأن بي جزع من الموت لطولت في الصلاة
فكان أول من سن صلاة ركعتين عن القتل
ثم أوثقوه ورفعوه على خشبة، واقترب منه أبو سفيان وقال له:
- أنشدك الله يا خُبَيب أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟

أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟
فقال له خُبَيب:
- ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي
ثم قال خُبَيب هذا الدعاء الشهير:
- اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا ولا تبق منهم أحدًا
ومعنى "احصهم عددًا" يعنى هذا الدعاء يشملهم جميغًا فردًا فردًا " واقتلهم بددًا" يعنى متفرقين، كما أنه قتل وحيدًا  
وكان ممن حضر هذا الموقف "معاوية بن أبي سفيان" مع أبيه "أبو سفيان بن حرب" وكان "معاوية" شابًا عمره 21 عامًا، فلما دعا "خُبَيب" هذا الدعاء ألقي "أبو سفيان" ابنه "معاوية" على الأرض، لأن العرب كانت تعتقد أن الرجل اذا دعي عليه، واضطجع لجنبه لم تصبه هذه الدعوة
وأخذوا يلقون عليه السهام ويطعنوه بالحراب حتى قتل
وكان ممن حضر قتله "عقبة بن الحارث" وكان يقول: 
- ما أنا والله قتلت خبيبا، لأني كنت أصغر من ذلك، ولكن جعلوا الحربة بيدي، ثم أخذوا بيدي وبالحربة ، ثم طعنوه بها حتى قتل 
وكان ممن حضر "سعيد بن عامر" وقد أسلم بعد ذلك، واستعمله "عمر بن الخطاب" على بعض الشام، فكان يغشي عليه أحيانًا، وهو جالس بين الناس، فذكر ذلك لعمر، وقالوا له أن الرجل مصاب، فلما قدم على "عمر" قال له: 
- يا سعيد ما هذا الذي يصيبك ؟ 
فقال سعيد بن عامر:
- والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل، وسمعت دعوته ، فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط إلا غشي علي 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
استشهاد "زيد بن الدَّثِنَّةِ"
وأما "زيد بن الدَّثِنَّةِ" والذي اشتراه "صفوان بن أمية" ليقتله انتقامًا لمقتل أبيه "أمية بن خلف" في بدر، فقد خرجوا به كذلك، بعد انقضاء الأشهر الحرم، خارج الحرم الى "التنعيم" فقد سأله أبو سفيان كذلك قبل موته:
- أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟
فقال زيد كما قال أخيه:
- ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي
فقال أبو سفيان وهو يضرب كفًا بكف:
- ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا

ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
حزن الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أصحابه
وقد عرفت هذه الحادثة المفجعة بالرجيع؛ نسبة إلى ماء الرجيع الذي وقعت عنده، وقد حزن الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حزنًا شديدًا لما أصاب أصحابه العشرة، وهم من خيرة أصحابه، وحزن المسلمون
وقد كانت هذه الحادثة من توابع "أحد" كما ذكرنا
ولكن قبل أن يفيق المسلمون من أحزانهم على مأساة "الرجيع" حدثت في نفس الشهر، في صفر من السنة الرابعة من الهجرة، مأساة أخري وفاجعة أخري أشد من هذه المأساة، وهي مأساة "بئر معونة" والتى سنتحدث عنها في الفصل القادم ان شاء الله تعالى 

*********************************

لمطالعة بقية الفصول اضغط هنا

*********************************