Untitled Document

عدد المشاهدات : 1648

خطبة: دَرَجَات الصَوْم

دَرَجَات الصَوْم

الخطيب: وائل فوزي

تاريخ الخطبة: 7 رمضان 1430- 28 أغسطس 2009

المكان: مسجد "السيدة مريم- عليها السلام" بمنطقة الهجانة

مدة الخطبة: 25 دقيقة

أما بعد،،،

تحدثنا في خطبة سابقة عن استقبال شهر رمضان المعظم، وقلنا أننا نستقبل هذا الشهر المبارك بأمرين اثنين:

§   الأول: هو التوبة عن جميع الذنوب، وقلنا أن التوبة واجبة في كل وقت وحين، ولكنها في رمضان أوجب، فمن لم يتب في رمضان فمتى يتوب ؟!

§   الثاني: حفظ الوقت واسثماره في الطاعة والعبادة، فالوقت نفيس ومن نفاسته أن الذي يذهب منه لا يعود، والوقت هو رأس مال العبد فاذا اضاع العبد وقته اضاع رأس ماله

 

ثم تحدثنا في خطبة تالية عن فضل الصوم، وقلنا في نهاية تلك الخطبة أن جميع الأحاديث التي تتناول فضل الصوم، لا تتحدث عن مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، ولكن المقصود بها هو صوم الجوارح عن الآثام، وهو ما أطلقنا عليه "صوم الصالحين"

 

يعني عندما نقول أن "خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" و"تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا" و "يزين الله عزو جل كل يوم جنته ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة ويصيروا اليك" و"للصائم عند فطره دعوة لا ترد" و" إن في الجنة بابا يدعى باب الريان يقال يوم القيامة: أين الصائمون ؟ فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل غيره" و " الصلوا ت الخمس، والجمعة الى الجمعة، ورمضان الى رمضان كفارة لما بينهما"

 

كل هذه الأحاديث الصحيحة، وكل هذا الفضل للصيام لا يقصد به مجرد الإمتناع عن الطعام والشراب، وانما صوم الجوارح عن الآثام، وهو صوم الصالحين، لو كان صيامك هو –فقط- امتناع عن الطعام والشراب، فسيسقط عنك فرض الصيام، ولذلك يقول الرسول  "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" أخرجه النسائي وابن ماجه

*        *       *

درجات الصوم

 

·        يقول العلماء أن الصوم ثلاث درجات" صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص

·        أما صوم العموم، فهو مجرد الامتناع عن الطعام والشراب والجماع

·        صوم الخصوص: هو كف البصر واللسان والسمع واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وتمامه بسبعة أمور:

1.  الأول: غض البصر عما حرم الله تعالى، يقول رسول الله "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس لعنه الله فمن تركها خوفاً من الله آتاه عز وجل إيماناً يجد حلاوته في قلبه" أخرجه الحاكم

ولنا مع هذا الحديث وقفة: فكل طاعة تورث انشراحاً في الصدر، وكل معصية –على العكس- تورث انقباضاً في الصدر، فماذا غض البصر بالتحديد الذي ذكر الرسول  انه يُشْرِح الصدر "ايمانا يجد حلاوته في قلبه" لأن الذي ينظر الى الحرام، يشتهي شيئاً لايصل اليه، فيشعر نتيجة لذلك بضيق في صدره، يعني مثلاً شاب جلس على الإنترنت وأخذ يشاهد أفلاماً اباحية لمدة ساعة، هو شاهد صوراً اشتهاها ولكنه لم يصل اليها، ولم يقضِ شهوته منها، وبالتالي مالذي يحدث له بعد هذه الساعة، سيقوم من مجلسه وهو يشعر بضيق شديد في صدره، كأن على قلبه جبل، واحد خرج مشوار، وطوال الطريق بينظر الى ما حرم الله، سيعود من مشواره في النهاية وهو قرفان وزهقان وبضيق في صدره، لماذا لأن كل اللائي نظر اليهن اشتهاهن، ولم يقض منهن شهوته، وبمفهوم المخالفة –كما نقول في أصول الفقه- فان الذي يغض بصره عما حرم الله يشعر بانشراح في الصدر و بـ "إيماناً يجد حلاوته في قلبه"

اذن الأمر الأول هو: غض البصر عما حرم الله تعالى، وليس غض البصر عما حرم الله تعالى فقط، ولكن أيضا كف البصر عن الاتساع في كل ما يشغل القلب ويلهى عن ذكر الله، فإن الله تعالى لا يحب فضول النظر كما لا يحب فضول الكلام

 

2.  الثاني: حفظ اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والجدال والمراء والخصومة وفضول الكلام، وغير ذلك من آفات اللسان

يقول رسول الله "إنما الصوم جنة، فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل إني صائم إني صائم"

"الرفث" كلمة جامعة لجميع آفات اللسان، و"ليقل اني صائم"، يعني أنا صائم فلا اريد أن أفسد صومي

روى أيضا أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله  فأجهدهما الجوع والعطش في آخر النهار، فبعثنا إلى رسول الله  يستأذناه في الإفطار، فأرسل اليهما قدحا وقال لهما "قيئا فيه ما أكلتما" فقاءتا لحماً ودما حتى ملأناه، فعجب الناس من ذلك، فقال رسول الله "هاتان صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله تعالى عليهما، قعدت إحداهما إلى الأخرى فجعلا يغتابان الناس، فهذا ما أكلتا من لحومهم" أخرجه أحمد

ولذلك قال سفيان: الغيبة تفسد الصوم

وقال مجاهد: خصلتان يفسدان الصيام الغيبة والكذب

إذن الأمر الثاني هو حفظ اللسان عن آفات اللسان، وأن ينشغل اللسان بدلاً من ذلك بذكر الله تعالى، وقراءة القرآن الكريم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح بين الناس، يقول تعالى في سورة النساء ((لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بمعروف أو صدقة أو إصلاح بين الناس))

 

3.  الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه، لأن ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه، يقول تعالى ((لولا ينهاهم الربانيون عن قولهم الإثم وأكلهم السحت)) ويقول تعالى ((إنكم إذا مثلهم)) وقد قال العلماء أن المستمع شريك للمغتاب في الإثم

 

4.     الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام، من اليد والرجل والجلد عما حرم الله تعالى

 

5.  الخامس: كف البطن عن الشبهات وقت الإفطار، فلا معنى للصوم عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام، فإن من يفعل ذلك كمن بنى قصرا وهدم بلدا كاملاً

 

6.  السادس: إلا يستكثر من الطعام –الحلال- وقت الإفطار، فما وعاء أبغض عند الله تعالى من بطن مليء من حلال، وقد جرت العادات أنم يؤكل في رمضان ما لا يؤكل في غيره، وقد  قلنا في خطبة سابقة أن المقصود من الصيام هو كسر الشهوة بالجوع، وقهر عدو الله، فإذا تدارك الصائم عند فكره ما فاته في نهاره بل ذاد عليه، فإنه ينبعث من شهوات النفس ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها

فينبغي للمسلم أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم

 

7.  السابع: أن يكون قلبه بعد الإفطار مضرباً معلقاً بين الخوف والرجاء، الرجاء أن يقبل صومه، والخوف ألا يقبل صومه، وينبغي أن يكون ذلك هو أمر المؤمن بعد كل عبادة يفرغ منها

 

·   هذا هو صوم الخصوص، وهو صوم الصالحين، ومرة أخرى هذا هو الصوم المقصود في جميع الأحاديث التي تتناول فضل الصيام، ولذلك يقول الرسول  "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" أخرجه النسائي وابن ماجه، قال المفسرون: هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام

·        ويقول الرسول  "إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته" أخرجه الخرائطي

·        وقد قال بعض العلماء: كم من صائم مفطر، وكم من مفطر صائم

·   واعلم أنك حين تكف عن الشهوات نقتدي بالملائكة، والملائكة مقربون من الله تعالى، والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم، يقرب من الله عز وجل كقربهم

*        *       *

·   وأخيرا صوم خصوص الخصوص، فهو صوم القلب عن الهمم الدنية، والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوي الله عز وجل بالكلية

·   ويحصل الفطر في هذا الصوم بمجرد التفكر في أمر من أمور الدنيا، إلا دنيا تراد للدين، لذلك يقول أرباب القلوب: من تفكر فيما سيفطر عليه فقد أفطر

وهذا الصوم هو صوم الأنبياء والصديقين والأولياء، وهؤلاء ينكشف لهم شيئا من الملكوت في ليلة القدر

 

يعني إيه ينكشف له الملكوت في لية القدر؟! تجد أحد هؤلاء الأولياء جالساً في مصلاه في ليلة القدر ويرفع راسه فيرى الجنة، ويعاين أنهارها وقصورها وتعيمها، أو يرى الملائكة على حقيقتهم، أو يرى عرش الله سبحانه وتعالىن ومنهم من يكون غارقاً في نور الله تعالى

*        *       *

هل تريد أن تصل الى هذه المرتبة العالية الرفيعة، هل تريد أن تكون ولياً لله سبحانه وتعالى، هوه يعني ايه ولى، الولي هو الذي يتولى الله تعالى أمره، فيكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بهان ورجله التي يمشى بها، وهؤلاء لاخوف عليهم ولا هم يحزنون، لا خوف عليهم في الدنيا، ولا هم يحزنون في الآخرة، هل تريد أن تكون ولياً لله تعالى، لماذا لا يكون لديك هذا الطموح، لماذا يكون دائماً طموحنا في أمور دنيوية، أنا طموحي أمتلك سيارة وبيت معين ودرجة وطيفية معينة، لماذا لا يكون طموحي هو أن أكون ولياً

طب كيف أصل إلى درجة الولاية

الصيام يساعدك على ذلك

كيف ؟!

يقول تعالى ((ألا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون))

إذن الولاية لها شرطان: الشرط الأول هو "الإيمان" وما هو الإيمان "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره وحلوه ومره"

الشرط الثاني من شروط الولاية هو "التقوى" ما هي التقوى؟ أن تخشى الله تعالى

كيف أصل الى هذه المرتية ؟ الصيام يساعدك على الوصل الى تقوىالله تعالى، والدليل هو قوله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون))

*        *       *

ملخص الأمر هو أن تجتهد أن تصوم صياماً حقيقياً، صيام الصالحين، وهو صيام الجوارح عن الآثام، إذا صمت صياماً حقيقياً فلك جميع فضل الصيام، هذا الفضل العظيم الذي ذكره الرسول في أحاديثه، وستصل –بفضل الله- إلى أن تكون تقياً لله، وإذا وصلت إلى مرتبة التقوى، وصلت يقيناً إلى مرتبة الولاية

 

نسأل الله تعالى أن ييسرنا لليسرى، وأن ينفعنا بالذكرى، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه