Untitled Document

عدد المشاهدات : 879

الحلقة (287) من "تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم" تدبر الآيات (74) و (75) و (76) من سورة "النِسَاء" قول الله -تَعَالي- (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أ

تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم
الحلقة السابعة والثمانون بعد المائتين (287) (ص 89)
تدبر الآيات (74) و (75) و (76)من سورة "النِسَاء"

❇        

فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
❇        

(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هذا حض على القتال في سبيل الله، والقتال في سبيل الله هو القتال في سبيلِ اعلاء كلمة الله، ونصر دينه.
(الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ) أي يبيعون الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بكل متاعها في مقابل نعيمالْآَخِرَةِ.
كلمة "شري" عند العرب تستخدم للبيع والشراء، كما قال تعالى في سورة يوسف (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) أي ثمن قليل، والمعنى يحدد حسب سياق الجملة
لماذا "شري" عند العرب تستخدم للبيع والشراء ؟ مع أن اللغة العربية لغة ثرية، أما كان يمكن أن تكون هناك كلمة خاصة بالبيع وكلمة خاصة بالشراء ؟
السبب أن نظام التبادل التجاري كان قائمًا في الأساس على المقايضة، فشخص يزرع التفاح عنده فائض من التفاح، وجاره يزرع برتقال عنده فائض في البرتقال، فكل مهما يأخذ حاجته ثم يبادل أو يقايض الآخر، فهذا يعطيه تفاح ويأخذ برتقال، والآخر يعطيه برتقال ويأخذ تفاح، في هذه الحالة من البائع ومن المشتري ؟ كل منهما بائع ومشتري في نفس المعاملة، فالذي عنده تفاح باع التفاح واشتري البرتقال، والثاني العكس، وهكذا فكل واحد بائع ومشتري في نفس الوقت، حتى بعد استخدام النقود، فاذا اشتريت شيئًا –قميصًا- بمبلغ من المال، فأنت في الحقيقة اشتريت القميص وبعت المال، وصاحب القميص باع القميص واشتري المال. 
هذا هو السبب في أن كلمة شري تستخدم للبيع وللشراء في نفس الوقت، والذي يحدد المعنى هو سياق الجملة.

❇        

فقوله تعالى (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ) يعنى يبيعون الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بكل متاعها في مقابل نعيم الْآَخِرَةِ.
والذي يبيع الحياة الدنيا في مقابل الآخرة، هو الذي يموت شهيدًا في المعركة، كأن الله تعالى يريد بقوله (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَة) أنا أريد من يقاتل في سبيل الله، أن يقاتل بهذا الفكر، وهذه النية، وهذا الهدف، أن يقاتل حتى يموت شهيدًا في المعركة.
عندما اقترب القتال في غزوة بدر، قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لصحابته: قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ، فقال شاب من الأنصار اسمه "عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ":  يا رَسولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ؟ وكان معه تَمَرَاتٍ يأكل منها، فقالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حتَّى آكُلَ تَمَرَاتي هذِه إنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فرمي بما معه من تمر، ثُمَّ أخذ يقاتل حتَّى قُتِلَ.
.
خرج أحد الأعراب مع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة خيبر، فكان له نصيب من الغنائم، فجاء الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال له: يا رسول الله ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرمى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهمٍ فأموت فأدخل الجنة،، ثم قاموا الى القتال، فأصابه سهم حيث أشار ومات شهيدًا.
.
وفي غزوة مؤتة خرج المسلمون في ثلاثة آلاف، فخرج اليهم الروم في مائتي الف، فقال المسلمون نبعث الى رسول الله نخبره بعدد عدونا، فجمعهم أميرهم "عبد الله بن رواحة" قال "والله يا قوم إن الذي تكرهون للذي خرجتم له .. الشهادة" 
ولذلك قال أحد المؤرخين "معركة عجيبة سجلها التاريخ بالدهشة والحيرة" 

❇        

ثم يؤكد الله تعالى هذا المعنى فيقول تعالى(وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)
هذا الأجر العظيم الذي وعد به الله تعالى في حالتين اثنين: الحالة الأولى هو القتل، والحالة الثانية هو الانتصار على الأعداء.
كما قال تعالى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)
فالذي يقاتل في سبيل الله ينبغي أن تكون نيته اما أن يقتل واما أن ينتصر، وبدأ تعالى بالقتل للإشارة الى أن الرغبة في القتل في سبيل الله يجب أن تكون أكبر من الرغبة في الانتصار.

❇        

وهنا اشارة قرآنية:قال العلماء أن المجاهد في سبيل الله اذا بذل جهده في المعركة ولكنه غُلِب، فان له أجر عظيم كذلك، ولكن الله تعالى لم يذكر هذه الحالة للإشارة الى أن المسلم المجاهد في سبيل الله لا ينبغي أن يكون خيار الهزيمة مطروحًا عنده. بل ينبغي أن يوطن نفسه على أحد أمرين اثنين لا ثالث لهما وهما: القتل في سبيل الله او الانتصار على الأعداء.
وبهذه الروح كان المسلمون يقاتلون أكبر امبراطوريتين في نفس الوقت، ويحققون انتصارات في هذه الجبهة وفي هذه الجبهة، حتى أسقطوا الامبراطورية الفارسية نهائيًا، ثم كونوا واحدة من أكبر عشرة امبراطوريات في تاريخ البشرية في عدد قليل جدًا من السنوات.
في رسالة "خالد بن الوليد" الى كسري قال له "جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة"


❇        

(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) 
نزلت الآية في المسلمين الذين حبستهم قريش فلم تسمح لهم  بالهجرة من مكة الى المدينة
فيقول تعالى محرضًا المؤمنين على الجهاد والقتال في سبيل الله، (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهو سؤال انكاري للتعجب، يعنى ما الذي يجعلكم لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وأي عذر لكم في عدم القتال فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟
(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) وهذا يدل على شدة الظلم فهم يقهرون ويؤذون الرجال والنساء، ثم يؤذون كذلك الْوِلْدَانِ وهم الصبية الصغار، الذين لا ذنب لهم.
وهذا يدل الى أن من أهم أبواب الجهاد استنقاذ المسلمين المستضعفين، فالقتال قد شرع في الاسلام، اما لعدم حرية الدين، واما لظلم المشركين للمسلمين. 
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) أي وهؤلاء المستضعفين يَقُولُونَ في دعائهم الى ربهم: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) والْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا هي مكة.
وكل قرية ذكرت في القرآن نسب الظلم اليها، أما في هذه الآية فلم يقل تعالى "القرية الظالمة" وانما قال تعالى (الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) تكريمًا لمكة المشرفة.
(وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك (وَلِيًّا) أي من يتولى أمرنا،  (وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) أي اجْعَل لَنَا مِنْ عندك من ينصرنا.
فهذا دعاء المستضعفين.

❇        

وقد روي أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان لا يتوقف عن الدعاء الى المستضعفين في مكة وهو في المدينة
(اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعه، والمستضعفين من المؤمنين) ولذلك فمن السنة الدعاء للمسلمين المستضعفين في كل مكان في الأرض.

❇        

(الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
(الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي يُقَاتِلُونَفي سبيل اعلاء كلمة الله.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) 
(الطَّاغُوتِ) صيغة مبالغة من الطغيان وهو مجاوزة الحد، وقد جاءت في القرآن بأكثر من معنى، ذكرها ابن القيم في خمسة معاني، وهي في هذا الموضع بمعنى الشيطان، فالذين كفروا يقاتلون في سبيل الشيطان
وهذا حض على الجهاد وتقوية لقلوب المؤمنين، فاذا كان هؤلاء يقاتلون في سبيل الشيطان ويبذلون أنفسهم في سبيل الشيطان، فأنتم أولى منهم ألف مرة في أن تبذلون ارواحكم في سبيل الله تعالى.
(إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)
الكيد هو المكر، وهو التدبير بخفاء.
ولذلك كان ضعيفًا لأنه تدبير بخفاء، والله تعالى مطلع عليه عالم به، والله تعالى المطلع على هذا التدبير هو ولى المؤمنين.

 

❇        

لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"

لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو

❇